التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الـهجر ضد الوصل يقال هجره يهجُره هِجْراناً وهَجْراً وهِجُرْة إذا قطع مواصلته وهجر المريض يهجُر هَجْراً إذا قال ما ينبغي أن يهجر من الكلام وسموا المهاجرين لـهجرتهم قومهم وأرضهم وإنما أطلق على هؤلاء اللفظ الذي يقع على الاثنين لأن كل واحد من هؤلاء فعل مثل فعل صاحبه وترك ما تركه اختياراً لصحبة النبي وجاهدت وجهاداً إذا حملت نفسك على المشقة في قتالـه والرجاء الأمل وقولـه: { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } [نوح: 13] أي لا تخافون وقال أبو ذؤيب:

إذا لَسَعْتهُ النَحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها وَخَالفَهَا فيْ بَيْت نُوْبٍ عَوامِلِ

أي لم يخف وذلك أن الرجاء للشيء معه الخوف من أن لا يكون فلذلك سمي الخوف باسم الرجاء.
النزول: نزلت الآية في قصة عبد الله بن جحش وأصحابه لما قاتلوا في رجب وقتل واقد السهمي ابن الخضرمي فظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لـهم أجر فأنزل الله الآية فيهم بالوعد.
المعنى: { إن الذين آمنوا } أي صدّقوا الله ورسولـه: { والذين هاجروا } أي قطعوا عشائرهم وفارقوا منازلـهم وتركوا أموالـهم: { وجاهدوا في سبيل الله } أي قابلوا الكفار في طاعة الله التي هي سبيلـه المشروعة لعباده وإنما جمع بين هذه الأشياء لبيان فضلـها والترغيب فيها لا لأن الثواب لا يستحق على واحد منها على الانفراد.
{ أولئك يرجون رحمة الله } أي يأملون نعمة الله في الدنيا والعقبى وهي النصرة في الدنيا والمثوبة في العقبى: { والله غفور } يغفر ذنوبهم: { رحيم } يرحمهم وإنما ذكر لفظ الرجاء للمؤمنين وإن كانوا يستحقون الثواب قطعاً وبقينا لأنهم لا يدرون ما يكون منهم في المستقبل الإقامة على طاعة الله أو الانقلاب عنها إلى معصية الله ووجه آخر وهو الصحيح وهو أن يرجو رحمة الله في غفران معاصيهم التي لم يتفق لـهم التوبة منها واخترموا دونها فهُم يرجون أن يسقط الله عقابهما عنهم تفضلاً فأما الوجه الأول فإنما يصح على مذهب من يُجوّز أن يكفر المؤمن بعد إيمانه أو يفعل في المستقبل كبيرة تحبط ثواب إيمانه وهذا لا يصح على مذهبنا في الموافاة وقال الحسن: أراد به إيجاب الرجاء والطمع على المومنين لأن رجاء رحمة الله من أركان الدين واليأس من رحمته كفر كما قال:
{ ولا ييأس من روح الله } [يوسف: 87] الآية والأمن من عذابه خسران كما قال: { ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } [الأعراف: 99] فمن الواجب على المؤمن أن لا ييأس من رحمته وأن لا يأمن من عقوبته ويؤيّده قولـه تعالى: { يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } [الزمر: 9] وقولـه: { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [السجدة: 16] وليس في الآية دلالة على أن من مات مُصرّاً على كبيرة لا يرجو رحمة الله لأمرين أحدهما: أن الدليل المفهوم غير صحيح عند أكثر المحصلين والآخر: إنه قد يجتمع عندنا الإيمان والـهجرة والجهاد مع ارتكاب الكبيرة ولا يخرج من هذه صورته عن تناول الآية لـه.
النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلـها أنه لما ذكر في الأولى العذاب ذكر بعدها الثواب ليكون العبد بين الخوف والرجاء إذ ذاك أحق بتدبير الحكماء وأوكد في الاستدعاء.