التفاسير

< >
عرض

ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٢٩
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو جعفر وحمزة إلا أن يُخافا بضم الياء والباقون بفتحها.
الحجة: خاف فعل يتعدى على مفعول واحد وذلك المفعول يكون أن وصلتها نحو قولـه تخافون أن يتخطفكم الناس ويكون غيرها نحو قولـه تخافونهم فوجه قراءة حمزة الابنُ يخافا أنه لما بنى الفعل للمفعول به أسند الفعل إليه فلم يبق شيء يتعدى إليه فأمّا أنْ مِن قولـه أن لا يقيما فإن الفعل يتعدى إليه بالجار كما تعدى بالجار في قولـه ولو خافك اللَّهُ عَلَيه حَرَّمه وموضع أن في الآية جر بالجار المقدر على قول الخليل والكسائي ونصب في قول سيبويه وأصحابه إلا أنه لما حذف الجار وصل الفعل إلى المفعول الثاني مثل استغفر الله ذنباً وأمرتك الخير فقراءته مستقيمة على ما رأيت فإن قال قائل لو كان يخافا كما قرأ لكان ينبغي أن يكون فإن خيفا قيل لا يلزمه هذا السؤال لمن خالفه في القراءة لأنهم قد قرأوا إلاّ أن يخافا ولم يقولوا فإن خافا وليس يلزم هذا السؤال جميعهم لأمرين:
أحدهما: أنه انصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال { الحمد للـه } ثم قال { إياك نعبد }
{ { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } [الروم: 39] وهذا النحو كثير في التنزيل وغيره والآخر: أن يكون الخطاب في قولـه فإن خفتم مصروفاً إلى الولاة والفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة وجاز أن يكون الخطاب للكثرة فيمن جعلـه انصرافاً من الغيبة إلى الخطاب لأن ضمير الاثنين في يخافا ليس يراد به اثنان مخصوصان إنما يراد به أن كل مَن كان هذا شأنه فهذا حكمه فأما من قرأ يخافا بفتح الياء فالمعنى أنه إذا خاف كل واحد من الزوج والمرأة أن لا يقيما حدود الله حلّ الافتداء.
اللغة: المرة والمرتان كالكرة والكرتين وأصل المرة المرور خلاف الوقوف، والمِرّة شدة الفتل لاستمراره على الأحكام والإمساك خلاف الإطلاق وما بفلان مُسْكة وتماسك إذا لم يكن فيه خير، والممسك البخيل والمَسْك الإهاب لأنه يمسك البدن باحتوائه عليه، والمَسَك السوار لاستمساكه في اليد والتسريح مأخوذ من السرح وهو الإطلاق وسَرَح الماشية في المرعى سرحاً إذا أطلقها ترعى وسَرَحت الماشية انطلقت في المرعى والسِرْحان الذئب لاتباعه السرح والسَرْحة الشجرة المرتفعة لانطلاقها في جهة الطول والمِسْرَح المَشط لإطلاق الشعر به والسِرياح الجراد لانطلاقه في البلاد وأن يخافا معناه أن يظنا قال الشاعر:

أتانِي كلامٌ عَنْ نُصَيْبٍ يَقُولُـهُ وَما خِفْتُ يا سَلاّم أَنَّكَ عائِبِي

يعني ما ظننتُ وأنشد الفراء:

إذا مِتُّ فَادْفَنّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ تُرَّوي عِظامِي بَعْدَ مَوْتِي عُروقُها
وَلا تَدْفِنَنِّي فِي الفَـــلاةِ فَإِنَنِّـــي أخــافُ إِذَا ما مِـتُّ أنْ لا أَذُوقُهـــا

وقال أبو عبيدة إلا أن يخافا معناه يوقنا فإن خفتم ها هنا معناه إن أيقنتم.
الإعراب: الطلاق رفع بالابتداء ومرتان الخبر وقولـه فإمساك خبر مبتدأ محذوف تقديره فالواجب عليكم إمساك ولو كان في الكلام فإمساكاً بالنصب لكان جايزاً على فامسكوهن إمساكاً بمعروف كما قال فامسكوهن بمعروف وأن يخافا موصول وصلة موضعهما نصب بأنه مفعول لـه تقديره لمخافتهما وأن لا يقيما في موضع نصب بأنه مفعول يخافا تقديره يخافا ترك إقامة حدود الله.
النزول: روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة أتتها فشكت أن زوجها يطلّقها ويسترجعها يضارّها بذلك وكان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان لـه ذلك وإن طلّقها ألف مرة لم يكن للطلاق عندهم حدّ فذكرت ذلك لرسول الله فنزلت الطلاق مرتان فجعل حدّ الطلاق ثلاثاً والطلاق الثالث قولـه { فإن طلقها فلا تحل لـه من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }، وروي أيضاً أنه قيل للنبي الطلاق مرتان فأين الثالثة قال:
" "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وقولـه { إلا أن يخافا } فأنزل في ثابت بن قيس بن شماس وزوجته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وكان يحبها وتبغضه فقال لـها: "أتردِّين عليه حديقته؟" قالت: نعم وأزيده قال: "لا حديقته فقط" فردت عليه حديقته فقال: "يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلـها" ففعل فكان أول خلع في الإسلام.
المعنى: ثم بيّن سبحانه عدد الطلاق فقال: { الطلاق مرتان } أي الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان وفي معناه قولان أحدهما: إنه بيان تفصيل طلاق السنة وهو أنه إذا أراد طلاقها ينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع تطليقة واحدة ثم يتركها حتى تخرج من العدة أو حتى تحيض وتطهر ثم يطلّقها ثانية عن ابن عباس ومجاهد والثاني: إن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة مما لا يوجبها وفي الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين إلا الفرقة البائنة ولفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر أي طلّقوا دفعتين وقولـه { فإمساك بمعروف } تقديره فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك بمعروف أي على وجه جميل سائغ في الشريعة لا على وجه الإضرار بهنّ.
{ أو تسريح بإحسان } فيه قولان أحدهما: إنه الطلقة الثالثة والثاني: أنه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة عن السدي والضحاك وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله { ولا يحل لكم } خطاب الأزواج { ان تأخذوا } في حال الطلاق واستبدال { مما آتيتموهن } أي أعطيتموهن من المهر { شيئاً } ثم استثنى الخلع فقال { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } معناه إلا أن يغلب على ظنهما أن لا يقيما حدود الله لما بينهما من أسباب التباعد والتباغض، وقال ابن عباس: هو أن يظهر من المرأة النشوز وسوء الخلق بغضاً للزوج وقال أبو عبد الله: قالت المرأة لا أغتسل لك من جنابة ولا أبرّ لك قسماً ولأوطئن فراشك ولأدخلنّ عليك بغير إذنك، إذا قالت لـه هذا حلّ لـه أن يخلعها وحلّ لـه ما أخذ منها، وعلى الجملة إذا خاف أن تعصي الله فيه بارتكاب محظور أو محظور أو إخلال بواجب وأن لا تطيعه فيما يجب عليها فحينئذ يحلّ لـه أن يخلعها وروي مثل ذلك عن الحسن وقال الشعبي: هو نشوزها ونشوزه.
{ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } أي فإن ظننتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام { فلا جناج عليهما } أي فلا حرج ولا إثم عليهما وهذا يفيد الإباحة وفي قولـه عليهما وإن كانت الإباحة للزوج وجهان أحدهما: أن الزوج لو خصّ بالذكر لأوهم أنها عاصية وإن كانت الفدية لـه جائزة فبين الإذن لـهما في ذلك ليزول الإيهام عن علي بن عيسى والآخر: أن المراد به الزوج وإنّما ذكر معه المرأة لاقترانهما كقولـه:
{ { نسيا حوتهما } [الكهف: 61] وقولـه { ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن: 22] وإنما هو من الملح دون العذب فجاز للاتساع قال الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن: وهذا أليق بمذهبنا لأن الذي يبيح الخلع عندنا هو ما لولاه لكانت المرأة عاصية وأقول: إن الذي عندي في ذلك أن جواز وقوع العصيان منها هو السبب في إباحة الخلع ورفع الجناج إنما تعلق بالخلع لا بأسبابه والوجه الأول أولى بالاختيار وأشد ملائمة لظاهر الآية والوجه الأخير مرغوب عنه لعدولـه عن سنن الاستقامة إذ لا يكون الاثنان واحداً في الحقيقة.
{ فيما افتدت به } أي بذلت من المال واختلف في ذلك فعندنا إن كان البغض منها وحدها وخاف منها العصيان جاز أن يأخذ المهر وزيادة عليه وإن كان منهما فدون المهر وقيل إنه يجوز الزيادة على المهر والنقصان من غير تفصيل عن ابن عباس وابن عمر ورجاء بن حيوة وإبراهيم ومجاهد وقيل: المهر فقط عن ربيع وعطاء والزهري والشعبي ورووه عن علي والخلع بالفدية على ثلاثة أوجه أحدها: أن تكون المرأة عجوز أو دميمة فيضارّ بها الزوج لتفتدي نفسها فهذا لا يحل لـه الفدا لقولـه
{ { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } [النساء: 20] الآية والثاني: أن يرى الرجل امرأته على فاحشة فيضار بها لتفتدي نفسها فهذا جائز وهو معنى قولـه: { { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } [النساء: 19] والثالث: أن يخافا ألا يقيما حدود الله لسوء خلق أو قلة نفقة من غير ظلم أو نحو ذلك فيجوز لـهما جميعاً الفدية على ما مر تفصيلـه.
{ تلك حدود الله } أي أوامره ونواهيه وما نصب من الآيات في الخلع والطلاق والرجعة والعدة { فلا تعتدوها } أي: فلا تجاوزوها بالمخالفة { ومن يتعد حدود الله } أي يتجاوزها بأن يخالف ما حد لـه { فأولئك هم الظالمون } واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع لأنه قال الطلاق مرتان ثم ذكر الثالث على الخلاف في أنها قولـه { أو تسريح بإحسان } أو قولـه { فإن طلّقها } ومن طلق ثلاثاً بلفظ واحد فإنه لم يأت بالمرتين ولا بالثالثة كما أنه لما أوجب في اللعان أربع شهادات فلو أتى بالأربع بلفظ واحد لما أتى بالشروع ولم يحصل حكم اللعان وكذلك لو رمى في الجمار بسبع حصيات دفعة واحدة لم تجزئ عنه بلا خلاف وكذلك الطلاق.