التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٢٣
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: إن دخلت ههنا لغير شك لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون ولكن هذا على عادة العرب في خطابهم كقولـهم إن كنت إنساناً فافعل كذا وإن كنت ابني فأطعني وإن كان كونه إنساناً وابناً معلوماً وإنما خاطبهم الله تعالى على عادتهم في الخطاب والريب الشك مع تهمة والعبد المملوك من جنس ما يعقل ونقيضه الحرّ من التعبيد وهو التذليل لأن العبد يذل لمولاه والعبودية من أحكام الشرع لأنه بمنزلة ذبح الحيوان ويستحق عليها العوض وليست بعقوبة ولذلك يسترق المؤمن والصبي والسورة غير مهموزة من سور البناء وكل منزلة رفيعة فهي سورة ومنه قول النابغة:

أًَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ

هذا قول أبي عبيدة وابن الأعرابي في تفسير السورة, فكل سورة من القرآن بمنزلة درجة رفيعة ومنزل عال رفيع يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن وقيل السورة مهموزة والمراد بها القطعة من القرآن انفصلت عما سواها وأبقيت وسؤر كل شيء بقيته وأسأرت في الإناء أبقيت فيه قال الأعشى يصف امرأة:

فَبانَتْ وَقَدْ أَسأَرَتْ في الفُؤَا دِ صَدْعاً عَلى نَأيِها مُستطيرا

الإعراب: إن حرف شرط تجزم الفعل المضارع وتدخل على الفعل الماضي فتصرفه إلى معنى الاستقبال ولابد للشرط من جزاء وهما جملتان ربطت إحداهما بالأخرى نحو: إن تفعل أفعل, فقولك إن تفعل شرط وهو مجزوم بأن وقولك أفعل جزاء وهو مجزوم بالشرط لا بأن وحدها ولا بالفعل فإن كان الجزاء جملة من فعل وفاعل كان مجزوماً وإن كان جملة من مبتدأ وخبر فلا بد من الفاء وكانت الجملة في موضع الجزم فقولـه كنتم في موضع الجزم بأن.
وقولـه: { فأتوا بسورة } ائتوا مبني على الوقف لأنه أمر المخاطبين والواو فاعل والفاء وما بعده في موضع جزم بأنه جزاء وما قيل الفاء لا يعمل فيما بعده ومن يقع على أربعة أوجه أحدها: أن يكون بمعنى ابتداء الشيء من مكان مّا كقولك خرجت من البصرة. وثانيها: بمعنى التبعيض كقولك أخذت من الطعام قفيزاً وثالثها: بمعنى التبيين كقولـه تعالى:
{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } [الحج: 30] وهي في التبيين تخصص الجملة التي قبلها كما أنها في التبعيض تخصص الجملة التي بعدها ورابعها: أن تقع مزيدة نحو ما جاءني من رجل.
فإذا قد عرفت هذا فقولـه تعالى: { من مثله } قال بعضهم أن من بمعنى التبعيض وتقديره فأتوا ببعض ما هو مثل له وهو سورة وقيل هو لتبيين الصفة وقيل إن من مزيدة لقولـه في موضع آخر بسورة: { مثله } أي مثل هذا القرآن وتعود الهاء في مثله إلى ما من قولـه: { مما نزلنا على عبدنا } في الأقوال الثلاثة وقيل إن من بمعنى ابتداء الغاية والهاء من مثله يعود إلى عبدنا فيكون معناه بسورة من رجل مثله والأول أقوى لما نذكره بعد.
المعنى: لما احتج الله تعالى للتوحيد عقّبه من الاحتجاج للنبوة بما قطع عذرهم فقال: { وإن كنتم في شك } من صدق هذا الكتاب الذي أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا: { فأتوا بسورة من مثله } أي من مثل القرآن وعلى قول من يقول الضمير في مثله عائد إلى عبدنا فالمعنى فأتوا بسورة من بشر أُمّي مثله لا يحسن الخط والكتابة ولا يدري الكتب والصحيح هو الأول لقولـه تعالى في سورة أخرى:
{ { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [الطور: 34] وقولـه: { فأتوا بسورة مثله } وقولـه: { { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [الإِسراء: 88] يعني فأتوا بسورة مثلما أتى به محمد في الإعجاز من حسن النظم وجزالة اللفظ والفصاحة التي اختصت به والأخبار عمّا يكون دون تعلم الكتب ودراسة الأخبار.
وقولـه: { وادعوا شهداءكم } قال ابن عباس يعني أعوانكم وأنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم وسمى أعوانهم شهداء لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة والشهيد يكون بمعنى المشاهد كالجليس والأكيل ويسمى الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه بأنه شهيد أيضاً وقولـه: { من دون الله } أي من غير الله كما يقال ما دون الله مخلوق يريد وادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله: { إن كنتم صادقين } في أن هذا الكتاب يقولـه محمد من نفسه. وقال الفراء: أراد وادعوا آلهتكم وقال مجاهد وابن جريج: أراد قوماً يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولـهم وقول ابن عباس أقوى لأن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله لأن الدعاء بمعنى الإستعانة كما قال الشاعر:

فَلَمَّا الْتَقَتْ فرْسانُنا وَرِجالُنَا دَعَوْا يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنَا لِعامِرِ

وقال آخر:

وَقَبْلَكَ رُبَّ خَصْمٍ قَدْ تَمالُوا عَلَيَّ فَما جَزَعْتُ وَلاَ دَعَوْتُ

وأما قول مجاهد فلا وجه له لأن الشاهدين لا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كفاراً فالمؤمنون لا يكونون شهداء للكفار والكفار لا بّد أن يسارعوا إلى إبطال الحق أو تحقيق الباطل إذا دعوا إليه فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم ولكن ينبغي أن يجري ذلك مجرى قولـه تعالى: { { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإِسراء: 88] وقال قوم إن هذا الوجه جائز أيضاً صحته لأن العقلاء لا يجوز أن يُحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن ولا يكون مثله كما لا يجوز أن يُحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض على الحقيقة وهذه الآية تدلّ على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى تَحدَّى بالقرآن وببعضه ووجه الاستدلال بها أنه تعالى خاطب قوماً عقلاء فصحاء قد بلغوا الغاية القصوى من الفصاحة وتسنموا الذروة العليا من البلاغة فأنزل إليهم كلاماً من جنس كلامهم وتَحَدَّاهم والإتيان بمثله أو ببعضه بقولـه: { { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ } [هود: 13] وبسورة مثله وجعل عجزهم عن ذلك حجة عليهم ودلالة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الحمية والأنفة فبذلوا أموالهم ونفوسهم في إطفاء أمره ولم يتكلفوا في معارضة القرآن بسورة ولا خطبة فعلمنا أن المعارضة كانت متعذرة عليهم فدل ذلك على أن القرآن معجز دالّ على صحة نبوته.