التفاسير

< >
عرض

لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الرشد نقيض الغي وهو الرُشد والرَشَد وتقول غَوِيَ يغوي غياً وغَواية إذا سلك طريق الـهلاك وغوى إذا خاب قال الشاعر:

وَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدُ النْاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْو لا يعْدِمْ عَلَى الغَيِّ لائِما

وغوى الفصيل يغوي غوًى إذا قطع عن اللبن حتى يكاد يهلك والطاغوت وزنها في الأصل فعلوت وهو مصدر مثل الرغبوت والرهبوت والرحموت ويدل على أنها مصدر وقعها على الواحد والجماعة بلفظ واحد وأصلـها طَغَيُوت لأنها من الياء يدل على ذلك قولـه: { { في طغيانهم يعمهون } [البقرة: 15] ثم إن اللام قدمت إلى موضع العين فصارت طَيَغُوت ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلـها فصار صاغوت فوزنها الآن بعد القلب فعلوت وجمع طاغوت طواغيت وطواغت وطواغ على حذف الزيادة والطواغي على العوض من المحذوف والعروة عروة الدلو ونحوه لأنها متعلقة وعروت الرجل أعروه عَرْواً إذا ألممت به متعلقاً بسبب منه واعتراه همٌّ إذا تعلق به وعرته الحُمى تعروه إذا علقت به فالأصل في الباب التعلق قال الأزهري: العروة كل نبات لـه أصل ثابت كالشيح والقيصوم وغيره وبه شبهت عرى الأشياء في لزومهما والوثقى تأنيث الأوثق والانفصام والانقطاع والإنصداع نظائر قال الأعشى:

وَمبَسِمُهَا مِنْ شَتْيتِ النَبّات غَيْرُ اكَسٍّ وَلا مُنْفَصِم

يقال: فصمته فانفصم.
النزول: قيل نزلت الآية في رجل من الأنصار كان لـه غلام أسود يقال لـه صبيح وكان يكرهه على الإسلام عن مجاهد، وقيل
"نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين وكان لـه ابنان فقدم تُجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا إلى الشام فأخبر أبو الحصين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { لا إكراه في الدين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبعدهما الله هما أول من كفر" فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله { فلا وربك لا يؤمنون } الآية قال، وكان هذا قبل أن يؤمر النبي بقتال أهل الكتاب ثم نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة عن السدي، وهكذا قال ابن مسعود وابن زيد أنها منسوخة بآية السيف وقال الباقون هي محكمة وقيل "كانت امرأة من الأنصار تكون مقلاتاً فترضع أولاد اليهود فجاء الإسلام وفيهم جماعة منهم فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار فقالوا يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فنزلت { لا إكراه في الدين } فقال: خيروا أصحابكم فإن اختاروكم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم" عن ابن عباس.
المعنى: لما تقدم ذكر اختلاف الأمم وإنه لو شاء الله لأكرهههم على الدين ثم بين تعالى دين الحق والتوحيد عَقّبه بأن الحق قد ظهر والعبد قد خيّر فلا إكراه بقولـه { لا إكراه في الدين } وفيه عدة أقوال أحدها: أنه في أهل الكتاب خاصة الذين يؤخذ منهم الجزية عن الحسن وقتادة والضحاك وثانيها: أنه في جميع الكفار ثم نسخ كما تقدم ذكره عن السدي وغيره وثالثها: أن المراد لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره عن الزجاج ورابعها: أنها نزلت في قوم خاص من الأنصار كما ذكرناه في النزول عن ابن عباس وغيره وخامسها: إن المراد ليس في الدين إكراه من الله ولكن العبد مخير فيه لأن ما هو دين في الحقيقة هو من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه فأما ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة كما أن مَن أكره على كلمة الكفر لم يكن كافراً والمراد الدين المعروف وهو الإسلام ودين الله الذي ارتضاه.
{ قد تبين الرشد من الغي } قد ظهر الإيمان من الكفر والحق من الباطل بكثرة الحج والآيات الدالة عقلاً وسعاً والمعجزات التي ظهرت على يد النبي { فمن يكفر بالطاغوت } فيه أقوال أحدها: أنه الشيطان عن مجاهد وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله وثانيها: أنه الكاهن عن سعيد بن جبير وثالثها: أنه الساحر عن أبي العالية ورابعها: أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى وخامسها: أنه الأصنام وما عبد من دون الله وعلى الجملة فالمراد من كفر بما خالف أمر الله.
{ ويؤمن بالله } أي يصدق بالله وبما جاءت به رسلـه { فقد استمسك } أي تمسك واعتصم { بالعروة الوثقى } أي بالعصمة الوثيقة وعقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا يحلّـه شبهة وعن مجاهد هو الإيمان بالله ورسولـه وجرى هذه مجرى المثل الحسن البيان بإخراج ما لا يقع به الإحساس إلى ما يقع به { لا انفصام لـها } أي لا انقطاع لـها يعني كما لا ينقطع أمر من تمسك بالعروة كذلك لا ينقطع أمر من تمسك بالإيمان { والله سميع } لأقوالكم { عليم } بضمائركم.