التفاسير

< >
عرض

للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب فيغفرُ ويعذبُ بالرفع وقرأ الباقون بالجزم فيهما.
الحجة: قال أبو علي: وجه قول من جزم أنه اتبعه ما قبلـه ولم يقطعه منه وهذا أشبه بما عليه كلامهم ألا ترى أنهم يطلبون المشاكلة ويلزمونها فمن ذلك إن كان معطوفاً على جملة من فعل وفاعل واشتغل عن الاسم الذي من الجملة التي يعطف عليها الفعل يختار فيه النصب ولو لم يكن قبلـه الفعل والفاعل لاختاروا الرفع وعلى هذا ما جاء في التنزيل نحو قولـه
{ { وكُلاًّ ضربنا لـه الأمثال } [الفرقان: 39] وقولـه { { فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } [الأعراف: 30] فكذلك ينبغي أن يكون الجزم أحسن ليكون مشاكلاً لما قبلـه في اللفظ وهذا النحو من طلبهم المشاكلة كثير ومن لم يجزم قطعة من الأول وقطعة منه على أحد وجهين إما أن يجعل الفعل خبراً لمبتدأ محذوف وإما أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها.
المعنى: { للـه ما في السماوات وما في الأرض } اللام لام الملك أي لـه تصريف السموات والأرض وما فيهما وتدبيرهما لقدرته على ذلك ولأنه الذي أبدعهما وأنشأهما فجميع ذلك ملكه وما ملكه يصرفه كما يشاء { وإن تبدوا ما في أنفسكم } وتعلنوه أي تظهروا ما في أنفسكم من الطاعة والمعصية { أو تخفوه } أي تكتموه { يحاسبكم به الله } أي يعلم الله ذلك فيجازيكم عليه، وقيل معناه إن تظهروا الشهادة أو تكتموها فإن الله يعلم ذلك ويجازيكم به عن ابن عباس وجماعة، وقيل إنها عامة في الأحكام التي تقدم ذكرها في السورة خوَّفهم الله سبحانه من العمل بخلافها، وقال قوم: إن هذه الآية منسوخة بقولـه
{ { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [البقرة: 286] ورووا في ذلك خبراً ضعيفاً وهذا لا يصح لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز فكيف ينسخ وإنما المراد بالآية ما يتناولـه الأمر والنهي من الاعتقادات والإرادات وغير ذلك مما هو مستور عنا فأما ما لا يدخل في التكليف من الوساوس والـهواجس وما لا يمكن التحفظ عنه من الخواطر فخارج عنه لدلالة العقل ولقولـه صلى الله عليه وسلم: " تجوز لـهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها" " فعلى هذا يجوز أن تكون الآية الثانية بينّت للأولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه وظن أن ما يخطر بالبال أو تتحدث به النفس مما لا يتعلق بالتكليف فإن الله يؤاخذ به والأمر بخلاف ذلك قولـه { فيغفر لمن يشاء } أي يغفر لمن يشاء منهم رحمة وفضلاً { ويعذب من يشاء } منهم ممن يستحق العقاب عدلاً.
{ والله على كل شيء قدير } من المغفرة والعذاب عن ابن عباس ولفظ الآية عام في جميع الأشياء والقول فيما يخطر بالبال من المعاصي أن الله تعالى لا يؤاخذ به وإنما يؤاخذ بما يعزم الإنسان ويعقد قلبه عليه مع إمكان التحفظ عنه فيصير من أفعال القلب فيجازيه به كما يجازيه بأفعال الجوارح وإنما يجازيه جزاء العزم لا جزاء عين تلك المعصية لأنه لم يباشرها وهذا بخلاف العزم على الطاعة فإن العازم على فعل الطاعة يجازي على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة كما جاء في الأخبار:
"إن المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها" وهذا من لطائف نعم الله تعالى على عباده.
النظم: ذكر في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلـها وجوه أحدها: أنه لما فرغ من بيان الشرائع ختم السورة بالتوحيد والموعظة والإقرار بالجزاء والثاني: إنه لما قال والله بكل شيء عليم اتبعه بأنه لا يخفى عليه شيء لأن لـه ملك السموات والأرض عن أبي مسلم والثالث: إنه لما أمر بهذه الوثائق بين أنه إنما يعتد بها لأمر يرجع إلى المكلفين لا لأمر يرجع إليه فإن لـه ما في السموات وما في الأرض.