التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
٤٨
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل مكة والبصرة لا تقبل بالتاء والباقون بالياء.
الحجة: فمن قرأ بالتاء لحق علامة التأنيث لتؤذن بأن الاسم الذي أسند إليه الفعل وهو الشفاعة مؤنث ومن قرأ بالياء فلأن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي فحمل على المعنى فَذُكِّر لأن الشفاعة والتشفع بمنزلة كما أن الوعظ والموعظة والصيحة والصوت كذلك وقد قال تعالى:
{ { فمن جاءه موعظة } [البقرة: 275] { { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } [هود: 57] ويقوّي التذكير أيضاً أنه فصل بين الفعل والفاعل بقولـه منها التذكير يحسن مع الفصل كما يقال في التأنيث الحقيقي حضر القاضي اليوم امرأةٌ.
اللغة: الجزاء والمكافأة والمقابلة نظائر يقال جزى يجزي جزاء وجازاه مجازاة وفلان ذو جزاء أي ذو غناء فكان قولـه: { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } أي لا تقابل مكروهها بشيء يدرأه عنها ومنه الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة في الجذعة التي أمره أن يضحي بها:
"ولا تجزي عن أحد بعدك" وقال: "البقرة تجزي عن سبعة" . أي تقضي وتكفي.
قال أبو عبيدة: هو مأخوذ من قولك جزى عني هذا الأمر فأما قولـهم أجزأني الشيء أي كفاني فمهموز وقبول الشيء هو تلقيه والأخذ به خلاف الإعراض عنه ومن ثم قيل لِتِجاه الشيء وقبالته وقالوا أقبلت المكواة الداء أي جعلتها قبالته قال وأقبلتُ أفواهَ العروق المكاويا والقبول والانقياد والطاعة والإجابة نظائر ونقيضه الامتناع والشفاعة مأخوذة من الشفع فكأنه سؤال من الشفيع يشفع سؤال المشفوع له, والشفاعة والوسيلة والقربة والوصلة نظائر, والشفعة في الدار وغيرها معروفة وإنما سميت شفعة لأن صاحبها يشفّع ماله بها ويضمها إلى ملكه والعدل, والحق والإنصاف نظائر ونقيض العدل الجور والعدل المرضي من الناس الذكر والأنثى والجمع الواحد فيه سواء والعدل الفدية في الآية, والفرق بين العِدل والعَدل أن العِدل هو مثل الشيء من جنسه والعَدل هو بدل الشيء وقد يكون من غير جنسه قال سبحانه:
{ { أو عدل ذلك صياماً } [المائدة: 95] والنصرة والمعونة والتقوية نظائر وفي الحديث: " أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" أي امنعه من الظلم إن كان ظالماً وامنع عنه الظلم إن كان مظلوماً وأنصار الرجل أعوانه ونصرتِ السماء إذا أمطرت .
الإعراب: يوماً انتصابه انتصاب المفعول لا انتصاب الظروف لأن معناه اتقوا هذا اليوم واحذروه وليس معناه اتقوا في هذا اليوم لأن ذلك اليوم لا يؤمر فيه بالاتقاء وإنما يؤمر في غيره من أجله, وموضع لا تجزي نصب لأنه صفة يوم والعائد إلى الموصوف فيه اختلاف ذهب سيبويه إلى أن فيه محذوف من الكلام أي لا يجزي فيه وقال آخرون لا يجوز إضمار فيه لأنك لا تقول هذا رجل قصدت أو رغبت وأنت تريد إليه أو فيه فهو محمول على المفعول على السعة كأنه قيل واتقوا يوماً لا تجزيه ثم حذف الهاء كما يقال رأيت رجلاً أُحِبّ أي أُحبّه وهو قول السراج. قال أبو علي: حذف الهاء من الصفة كما يحذف من الصلة لما بينهما من المشابهة فإن الصفة تخصص الموصوف كما أن الصلة تخصص الموصول ولا يعمل في الموصوف ولا يتسلط عليه كما لا يعمل الصلة في الموصول ومرتبتها أن تكون بعد الموصوف كما أن مرتبة الصلة أن تكون بعد الموصول وقد يلزم الصفة في أماكن كما يلزم الصلة وذلك إذا لم يعرف الموصوف إلا بها ولا تعمل الصلة فيما قبل الموصول كما لا تعمل الصفة فيما قبل الموصوف فإذا كان كذلك حسن الحذف من الصفة كما يحسن من الصلة في نحو قولـه:
{ { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [الفرقان: 40].
وقال الأخفش: شيئاً في موضع المصدر كأنه قال لا تجزي جزاء ولا تغني غناء وقال الرماني: الأقرب أن يكون شيئاً في موضع حقاً كأنه قال لا يؤدي عنها حقاً وجب عليها وقولـه لا يقبل منها شفاعة موضع هذه الجملة نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها ومن ذهب إلى أنه حذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول ثم حذف الراجع من الصفة كان مذهبه في لا يقبل أيضاً مثله فمما حذف منه الراجع إلى الصفة قول الشاعر :

وما شيءٌ حَمَيْتَ بمُسْتباح

والضمير في منها عائد إلى نفس على اللفظ وفي قولـه ولا هم ينصرون على المعنى لأنه ليس المراد به المفرد فلذلك جمع.
المعنى: لما بيّن سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة فقال { واتقوا } أي احذروا واخشوا { يوماً لا تجزي } أي لا تغني أو لا تقضي فيه { نفس عن نفس شيئاً } ولا تدفع عنها مكروهاً وقيل لا يؤدي أحد عن أحد حقاً وجب عليه لله أو لغيره وإنما نكّر النفس ليبين أن كل نفس فهذا حكمها وهذا مثل قولـه سبحانه
{ { واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً } [لقمان: 33] وقولـه: { ولا يقبل منها شفاعة } قال المفسرون حكم هذه الآية مختص باليهود لأنهم قالوا نحن أولاد الأنبياء وآباؤنا يشفعون لنا فأيأسهم الله عن ذلك فخرج الكلام مخرج العموم والمراد به الخصوص ويدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبي صلى الله عليه وسلم شفاعة مقبولة وإن اختلفوا في كيفيتها, فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين وقالت المعتزلة هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين وهي ثابتة عندنا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المنتجبين والأئمة من أهل بيته الطاهرين ولصالحي المؤمنين وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وهو قولـه: "أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني: " أشْفَع يوم القيامة فأُشَفَّع ويَشْفَع عليٌ فَيُشفَّع ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون وإن أدنى المومنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار" " وقولـه تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة: { { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } [الشعراء: 101].
وقولـه: { ولا يؤخذ منها عدل } أي فدية وإنما سمي الفداء عدلاً لأنه يعادل المفدى ويماثله وهو قول ابن عباس ومعناه لا يؤخذ من أحد فداء يكفّر عن ذنوبه, وقيل لا يؤخذ منه بدل بذنوبه وأما ما جاء في الحديث:
" لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً " فاختلف في معناه قال الحسن الصرف العمل والعدل الفدية وقال الأصمعي الصرف التطوع والعدل الفريضة, وقال أبو عبيدة: الصرف الحيلة والعدل الفدية. وقال الكلبي: الصرف الفدية والعدل رجل مكانه وقولـه: { ولا هم ينصرون } أي لا يعاونون حتى ينجوا من العذاب وقيل ليس لهم ناصر ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم.