التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قرأ ابن مُحيصَن يذبحون أبناءكم.
الحجة: قال ابن جني وجه ذلك أنَّ فعلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير وذلك لدلالة الفعل على مصدره والمصدر اسم الجنس وحسبك بالجنس سعة وعموماً وأنشد أبو الحسن:

أنْتَ الفِدَاءُ لِقبْلَةٍ هَدَّمتَهَا ونَقَرَتْهَا بِيَدَيكَ كلِّ مُنَقَّرِ

فكأنه قال ونَقْرتها لأن قولـه كل منقّر عليه جاء ولما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس لم يجز تثنيته ولا جمعه لاستحالة كل واحد من التثنية والجمع في الجنس.
اللغة: الإنجاء والتنجية والتخليص واحد والنجاة والخلاص والسلامة والتخلص واحد ويقال للمكان المرتفع نجوة لأن الصائر إليه ينجو من كثير من المضار, وفرق بعضهم بين الإنجاء والتنجية فقال: الإنجاء يستعمل في الخلاص قبل وقوعه في الهلكة, والتنجية يستعمل في الخلاص بعد وقوعه في الهلكة والآل والأهل واحد وقيل أصل آل أهل لأن تصغيره أهيل وحكى الكسائي أويل فزعموا أنها أبدلت كما قالوا هيهات وايهات وقيل لا بل هو أصل بنفسه والفرق بين الآل والأهل أن الأهل أعم منه يقال أهل البصرة ولا يقال آل البصرة ويقال آل الرجل قومه وكل من يؤول إليه بنسب أو قرابة مأخوذ من الأول وهو الرجوع وأهله كل من يضمه بيته وقيل آل الرجل قرابته وأهل بيته وآل البعير الواحة وآل الخيمة عمده وآل الجبل أطرافه ونواحيه وقال ابن دريد آل كل شيء شخصه وآل الرجل أهله وقرابته قال الشاعر :

وَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجِنَّهُ عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْر

وقال أبو عبيدة: سمعت أعرابياً فصيحاً يقول أهل مكة آل الله فقلنا: ما تعني بذلك؟ قال: أليسوا مسلمين المسلمون آل الله قال: وإنما يقال آل فلان للرئيس المتبع وفي شبه مكة لأنها أم القرى ومثل فرعون في الضلال واتّباع قومه له فإذا جاوزت هذا فإن آل الرجل أهل بيته خاصة فقلنا له: أفتقول لقبيلته آل فلان؟ قال: لا إلا أهل بيته خاصة وفرعون اسم لملك العمالقة كما يقال لملك الروم قيصر ولملك الفرس كسرى ولملك الترك خاقان ولملك اليمن تُبّع, فهو على هذا بمعنى الصفة وقيل إن اسم فرعون مصعب بن الريان وقال محمد بن إسحاق: هو الوليد بن مصعب { يسومونكم } يكلفونكم من قولـهم سامه خُطَة خسف إذا كلفه إياه وقيل يولونكم سوء العذاب وسامه خسفاً إذا أولاه ذلاً قال الشاعر:

إنْ سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا

وقيل يحشِّمونكم وقيل يعذبونكم وأصل الباب السوم الذي هو إرسال الإبل في الرعي وسوء العذاب وأليم العذاب وشديد العذاب نظائر. قال صاحب العين: السوء اسم العذاب الجامع للآفات والداء يقال سُؤتُ فلاناً أسوؤُه مساءة ومسائية واستاء فلان من السوء مثل اهتمّ من الهم والسوأة الفعلة القبيحة والسوأة الفرج والسوأة أيضاً كل عمل شين وتقول في النكرة رجل سَوء كما يقال رجل صدق فإذا عرّفت قلت الرجل السوء فلا تضيفه ولا تقول الرجل الصدق وقولـه بيض من غير سوء أي من غير بَرص والذبح والنحر والشق نظائر والذبح فري الأوداج والتذبيح التكثير منه وأصله الشق يقال ذبحت المسك إذا فتقت عنه قال:

كَأنَّ بَينَ فَكِّها وَالفَـــكِّ فأْرةُ مِسْكٍ ذُبِحَتْ في سَكِّ

والذبح الشيء المذبوح والذباح والبُحة بفتح الباء وتسكينها داء يصيب الإنسان في حلقه ويستحيون أي يستبقون ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" أي استبقوا شبابهم والنساء والنسوة والنسوان لا واحد لها من لفظها والبلاء والنعمة والإحسان نظائر في اللغة والبلاء يستعمل في الخير والشر قال سبحانه: { { ونبلوكم بالشر والخير } [الأنبياء: 35] والإبلاء في الأنعام قال وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً وقال زهير:

جَزَى اللهُ بالإحْسَانِ مَا فَعَلا بِكُمْ وَأبْلاَهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو

فالبلاء يكون بالإنعام كما يكون بالانتقام وأصل البلاء الامتحان والاختبار قال الأحنف البلاء ثم الثناء.
الإعراب: العامل في إذ من قولـه: { وإذ نجيناكم } قولـه اذكروا من قولـه: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } فهو عطف على ما تقدم وقولـه: { يسومونكم } يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من آل فرعون والعامل فيه نجيناكم ويجوز أن يكون للاستئناف, والأبناء جمع ابن واصل ابن بنو بفتح الفاء والعين ويدل على أن الفاء كانت مفتوحة قولـهم في جمعه أبناء على وزن أفعال وأفعال بابه أن يكون لفعل نحو جبل وأجبال كما كان فعل بتسكين العين بابه أفعل نحو فرخ وأفرخ والمحذوف من الابن الواو على ما قلناه لأنها أثقل فهي بالحذف أولى وإليه ذهب الأخفش وأبو علي الفسوي.
المعنى: ثم فصل سبحانه في هذه الآية النعم التي أجملها فيما قبل فقال واذكروا { إذ نجيناكم } أي خلصناكم من قوم { فرعون } وأهل دينه { يسومونكم } يلزمونكم { سوء العذاب } وقيل يذيقونكم ويكلفونكم ويعذبونكم والكل متقارب واختلفوا في العذاب الذي نجاهم الله تعالى منه فقال بعضهم ما ذكر في الآية من قولـه: { يذبّحون أبناءَكم ويستحيون نساءَكم } وهذا تفسيره وقيل أراد به ما كانوا يكلفونهم من الأعمال الشاقة فمنها أنهم جعلوهم أصنافاً فصنف يخدمونهم وصنف يحرثون لهم ومن لا يصلح منهم للعمل ضربوا عليهم الجزية وكانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم مع ذلك ويدل عليه قولـه تعالى في سورة إبراهيم
{ يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءَكم } [إبراهيم: 6] فعطفه على ذلك يدل على أنه غيره.
وقولـه: { يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } معناه يقتلون أبناءَكم ويستحيون بناتكم يستبقونهن ويدعونهن أحياء ليستعبدن وينكحن على وجه الاسترقاق وهذا أشد من الذبح وإنما لم يقل بناتكم لأنه سماهن بالاسم الذي يؤول حالهن إليه وقيل إنما قال نساءَكم على التغليب فإنهم كانوا يستبقون الصغار والكبار يقال أقبل الرجال وإن كان فيهم صبيان ويجوز أيضاً أن يقع اسم النساء على الصغار والكبار كالأبناء وقولـه { وفي ذلكم } أي وفي سومكم العذاب وذبح الأبناء { بلاء من ربكم عظيم } أي لما خلى بينكم وبينه حتى فعل بكم هذه الأفاعيل وقيل في نجاتكم من فرعون وقومه نعمة عظيمة من الله عليكم.
القصة: والسبب في قتل الأبناء أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فهاله ذلك ودعا السحرة والكهنة والقافة فسألهم عن رؤياه فقالوا إنه يولد في بني اسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل من أهل مملكته فقال لهن لا يسقط على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل بهن فكنّ يفعلن ذلك وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون فقالوا له إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها.