التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

الحجة: قال أبو علي الحجة لمن همز النبيء أن يقول هو أصل الكلمة ألا ترى أن ناساً من أهل الحجاز حققوا الهمزة في الكلام ولم يبدلوه فلم يكن كماضي يدع ونحوه مما رفض استعماله فأما ما روي في الحديث من أن بعضهم قال يا نبيء الله فقال صلى الله عليه وسلم: "لست نبيء الله ولكني نبيّ الله" فأظن أن من أهل النقل من ضعّف إسناد هذا الحديث ويقوي ضعفه أن من مدح النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

يَا خَاتَمَ النُّبآءِ إنَّكَ مُرْسَلٌ بِالحَقِّ خَيْرُ هُدى الإِلهِ هُدَاكَا

لم يؤثر عنه إنكار عليه فيما علمنا ولو كان في واحده نكير لكان الجمع كالواحد وحجة من أبدل ولم يحقق مجيء الجمع في التنزيل على أنبياء الذي هو في أكثر الأمر للمعتل اللام نحو صفي وأصفياء وغني وأغنياء فدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل فإذا ألزم فيه البدل ضعف فيه التحقيق ولا يجوز أن يكون اشتقاق النبي من النَبْوَة التي هي الارتفاع أو من النَباوة لأن سيبويه حكى أن جميع العرب يقولون تنبأ مسيلمة بالهمزة فدل على أن أصله الهمز وقال الزجاج يجوز أن يكون نبي من أنبأت فترك همزته لكثرة الاستعمال ويجوز أن يكون من نبا ينبو إذا ارتفع فيكون فعيلاً من الرفعة.
اللغة: الطعام ما يتغذَّى به والطعم بضم الطاء الأكل والطعام عَرض يدرك بحاسة الذوق, والطعام من قبيل الأجسام والواحد أول عدد الحساب وحدُّه ما لا يتجزىء والله تعالى واحد لتفرده بصفاته الحسنى, والدعاء أصله النداء عن ابن السراج وكل من يدعو ربه فهو يناديه وحقيقة الدعاء قول القائل لمن فوقه افعل والفرق بينه وبين الأمر يظهر بالرتبة. والإنبات إخراج النبات وأصله من الظهور فكأنه ظهر إذا نبت والبقل ما ينبته الربيع يقال بقلت الأرض وأبقلت لغتان فصيحتان إذا أنبتت البقل فالبقل كل نبات ليس له ساق وفي القثاء لغتان ضم القاف وكسرها والكسر أجود وهي لغة القرآن وقد روي عن عيسى الثقفي في الشواذ بالضم والفوم هو الحنطة عن ابن عباس وقتادة والسدي وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجُلاح:

قَدْ كُنْتُ أَغْنى النَّاسِ شَخْصاً وَاحِداً وَرَدَ المَدِيْنـَـةَ عَنْ زِرَاعَةِ فــُوْمِ

وقال الفراء والأزهري: هو الحنطة والخبز. تقول العرب فوموا لنا أي اختبزوا وقال قوم هو الحبوب التي تخبز. وقال الكسائي: هو الثوم أبدل من الثاء فاء كما قالوا حدث وجدف. قال الفراء: وهذا أشبه بما ذكره بعده من البصل, قال الزجاج: وهذا بعيد لأنه لا يعرف الثوم بمعنى الفوم لأن القوم لا يجوز أن يطلبوا الثوم ولا يطلبون الخبز الذي هو الأصل وهذا ضعيف لأنه قد روي في الشواذ عن ابن مسعود وابن عباس وثومها بالثاء, والعدس حب معروف وقولـه أدنى أي أقرب وأدون كما تقول هذا شيءٌ مقارب أو دون ويجوز أن يكون أدنى من الدناءَة وهي الخِسة يقال دَنَأَ دَناءَة فهو دني وهو أدنى منه فتركت همزتها وهو اختيار الفراء وحكى الأزهري عن ابن زيد الدني بلا همز الخسيس والدنيء بالهمزة الماجن وأما اشتقاق مصر فقال بعضهم هو من القطع لانقطاعه بالعمارة عما سواه ومنهم من قال هو مشتق من الفصل بينه وبين غيره وقال عدي بن زيد:

وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ

وضربت عليهم الذلة أي فرضت ووضعت عليهم الذلة وألزموها من قولـهم ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة وضرب الأمير على عبيده الخراج وقيل ضربت عليهم الذلة أي حلوا بمنزل الذل والمسكنة مأخوذ من ضرب القباب قال الفرزدق:

ضَرَبَتْ عَليْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ

وأما الذلة فمشتقة من قولـهم ذل فلان يذل ذُلاً وذلّة والمسكنة مصدر المسكين يقال ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكيناً ولقد تمسكن تمسكناً ومنهم من يقول تَسكَّنَ تَسكُّناً والمسكنة ها هنا مسكنة الفاقة والحاجة وهي خشوعها وذلها وقولـه: { وباؤوا بغضب } أي انصرفوا ورجعوا ولا يقال باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر وأكثر ما يستعمل في الشر ويقال باء بذنبه يبوء به قال المبرد وأصله المنزلة أي نزلوا منزلة غضب الله وروي أن رجلاً جاء برجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا قاتل أخي وهو بواءٌ أي مقتول به ومنه قول ليلى الأخيلية:

فَإِنْ تكُن القَتْلَى بَواءً فَإِنـَّــكُمْ فَتًى مَا قَتَلْتُمْ آلَ عَوْفِ بن عَامرِ

قال الزجاج أصل ذلك التسوية ومنه ما روي عن عبادة بن الصامت قال جعل الله تعالى الأنفال إلى نبيه فقسمها بينهم على بواء أي على سواء بينهم في القسم ومنه قول الشاعر:

فَيَقْتُلَ جَبْراً بِامرىءٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَواأٌ ولكِنْ لا تَكَايُلَ بِالدَّمِ

وقال قوم هو الاعتراف ومعناه أنهم اعترفوا بما يوجب غضب الله ومنه قول الشاعر:

إِنّي أَبُوءُ بعَثْرَتِي وخَطَيْئَتِي رَبّي وَهَلْ إِلاَّ إِلَيْكَ المَهْرَبُ

والغضب إرادة إيصال الضرر إلى من غضب عليه فإذا أضيف إلى الله تعالى فالمراد به أنه يريد إنزال العقوبة بالمغضوب عليه نعوذ بالله من غضبه والنبي اشتقاقه من النبأ الذي هو الخبر لأنه المخبر عن الله سبحانه فإن قلت لم لا يكون من النباوة ومما أنشده أبو عثمان قال أنشدني كيسان:

مَحْضُ الضِّرِيبَةِ في البَيْتِ الَّذِي وُضِعَتْ فِيْهِ النَّبَاوَةُ حلْواً غَيْرَ مَمْذُوْقِ

فالقول فيه أنه لا يجوز أن يكون منها لأن سيبويه زعم أنهم يقولون في تحقير النبوة كان مسيلمة نُبَيئة سوء وكلهم يقول تنبأ مسيلمة فلو كان يحتمل الأمرين لما اجتمعوا على ذلك. قال أبو علي: ومما يقوي أنه من النبأ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة وكأنه قال في البيت الذي وضعت فيه الرفعة وليس كل رفعة نبوة وقد يكون في البيت رفعة ليست بنبوة والمخبر عن الله تعالى المبلغ عنه نبي ورسول فهذا الاسم أخص به وأشد مطابقة للمعنى المقصود إذا أخذ من النبأ والاعتداء تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره وكل مجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما تجاوز إليه.
الإعراب: قولـه يخرج لنا مجزوم لأنه جواب أمر محذوف لأن تقديره أدع لنا ربك وقل له أخرج لنا يخرج لنا وقد ذكرنا فيما قبل أن الأصل فيه أنه مجزوم بالشرط وحذف الشرط لأن الكلام يدل عليه وقيل أن تقديره أن يكون يخرج مجزوماً بإضمار اللام أي ليخرج لنا نحو قولـه:
{ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } [إبراهيم: 31] أي ليقيموا فحذف اللام وأنشد أبو زيد:

فيُضْحِي صَرِيْعاً ما يَقُوْمُ لحاجَةٍ وَلاَ يَسْمَعُ الدَّاعي ويُسْمِعْكَ منْ دَعَا

وأنشد غيره:

فَقُلْتُ ادْعِي وأَدْعُ فإِنَّ أَنْدَى لِصَوتٍ أَنْ يُنَادِيَ داعِيَانِ

أي ولأدع.
وقال آخر:

مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كلُّ نفسٍ إِذَا ما خِفْتَ مِنْ أمرٍ تَبالا

أي لِتَفد قال المبرد حدثني المازني قال جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه لا يجوز حذف لام الأمر إلا في الشعر ثم أنشد:

مَنْ كَانَ لاَ يَزْعَمُ أَنِّي شَاعِرُ فَيدْنُ مِنّي يَنْهَهُ الزواجرُ

فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام؛ قال: لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف. قال فقلت فما اضطره ها هنا وهو يمكنه أن يقول فليدن مني؛ قال: فسأل عني فقيل المازني فأوسع لي. وقولـه مما تنبت الأرض من هنا للتبعيض لأن المراد يخرج لنا بعض ما تنبته الأرض وقال بعضهم أن من هنا زائدة نحو قولـهم ما جاءني من أحد والصحيح الأول لأن من لا تزاد في الإيجاب وإنما تزاد في النفي ولأن من المعلوم أنهم لم يريدوا جميع ما تنبته الأرض ونَوَّنَ جميع القراء مصراً لأنه أراد مصراً من الأمصار بغير تعيين لأنهم كانوا في تيه ويجوز أن يكون المراد مِصْرَ بعينها البلدة المعروفة وصرفه لأنه مذكر وروي عن ابن مسعود أنه قرأ بغير ألف ويجوز أن يكون المراد مصر هذه بعينها كما قال: { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } [يوسف: 99] وإنما لم يصرفه لأنه اسم المدينة فهو مذكر سمي به مؤنث ويمكن أن يكون إنما نَوَّنه مَنْ نَوَّنَه اتباعاً للمصحف لأنه مكتوب في المصحف بألف.
وقولـه: { ذلك بأنهم كانوا يكفرون } قال الزجاج معناه والله أعلم الغضب حلّ بهم بكفرهم وأقول في بيانه أن ذلك إشارة إلى الغضب في قولـه وباؤوا بغضب فهو في موضع الرفع بالابتداء وإن مع صلته من الاسم والخبر في موضع جر بالباء والجار يتعلق بخبر المبتدأ وهي جملة من الفعل والفاعل حذفت لدلالة ما يتصل بها عليها وكذلك قولـه { ذلك بما عصوا } فإن ما مع صلته في تأويل المصدر.
المعنى: لما عدد سبحانه فيما قبل ما أسداه إليهم من النعم والإحسان ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران وسوء الاختيار لنفوسهم بالعصيان فقال { وإذ قلتم } أي قال أسلافكم من بني إسرائيل { يا موسى لن نصبر على طعام واحد } أي لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد وإنما قال على طعام واحد وإن كان طعامهم المن والسلوى وهما شيئان لأنه أراد به أن طعامهم في كل يوم واحد أي يأكلون في اليوم ما كانوا يأكلونه في الأمس كما يقال إن طعام فلان في كل يوم واحد وإن كان يأكل ألواناً إذا حبس نفسه على ألوان من الطعام لا يعدوها إلى غيرها وقيل إنه كان ينزل عليهم المن وحده فَملّوه فقالوا ذلك فأنزل عليهم السلوى من بعد ذلك.
وقولـه: { فادع لنا ربك } أي فاسأل ربك وادعه لأجلنا { يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها } أي مما تنبته الأرض من البقل والقثاء ومما سماه الله مع ذلك وكان سبب مسألتهم ذلك ما رواه قتادة قال كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى فمَلّوا ذلك وذكروا عيشاً كان لهم بمصر فسألوا موسى فقال الله { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } وتقديره فدعا موسى فاستجبنا له فقلنا لهم اهبطوا مصراً وقيل إنهم قالوا لا نصبر على الغنى بأن يكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض فلذلك قالوا يخرج لنا مما تنبت الأرض ليحتاجوا فيه إلى أعوان فيكون الفقير عوناً للغني.
وقولـه: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } معناه قال لهم موسى وقيل بل قال الله لهم أتتركون ما اختار الله لكم وتؤثرون ما هو أدون وأردى على ذلك وقيل إنه أراد أتستبدلون ما تتبذلون في زراعته وصناعته بما أعطاه الله إياكم عفواً من المن والسلوى, وقيل المراد تختارون الذي هو أقرب أي أقل قيمة على الذي هو أكثر قيمته وألذ واختلف في سؤالهم هذا هل كان معصية فقيل لم يكن معصية لأن الأول كان مباحاً فسألوا مباحاً آخر وقيل بل كان معصية لأنهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم ولذلك ذمهم على ذلك وهو أوجه:
وقولـه: { اهبطوا مصراً } اختلف فيه فقال الحسن والربيع أراد مصر فرعون الذين خرجوا منه وقال أبو مسلم أراد بيت المقدس وروي ذلك عن ابن زيد وقال قتادة والسدّي ومجاهد أراد مصراً من الأمصار يعني أن ما تسألونه إنما يكون في الأمصار ولا يكون في المفاوز أي إذا نزلتم مدينة ذات طول وعرض { فإن لكم } فيها { ما سألتم } من نبات الأرض وقد تم الكلام ها هنا ثم استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت ومن قتل الأنبياء فقال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أي الزموا الذلة إلزاماً لا يبرح عنهم كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه وقيل المراد بالذلة لقولـه
{ { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [التوبة: 29] عن الحسن وقتادة وقيل هو الكُسْتيج وزي اليهود عن عطاء وقولـه { والمسكنة } يعني زي الفقر فترى المثري منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية وقال قوم هذه الآية تدل على فضل الغنى لأنه ذمَّهم على الفقر وليس ذلك بالوجه لأن المراد به فقر القلب لأنه قد يكون في اليهود مياسير ولا يوجد يهودي غَني النفس وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغنى غنى النفس" وقال ابن زيد أبدل الله اليهود بالعز ذلاً وبالنعمة بؤساً وبالرضا عنهم غضباً جزاء لهم بما كفروا بآياته وقتلوا أنبياءه ورسله اعتداء وظلماً.
{ وباءوا بغضب من الله } أي رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد وجب عليهم من الله الغضب وحل بهم منه السخط وقال قوم: الغضب هو ما حل بهم في الدنيا من البلاء والنقمة بدلاً من الرخاء والنعمة. وقال آخرون هو ما ينالهم في الآخرة من العقاب على معاصيهم ثم أشار إلى ما تقدم ذكره فقال { ذلك } أي ذلك الغضب وضرب الذلة والمسكنة حل بهم لأجل { أنهم كانوا يكفرون بآيات الله } أي يجحدون حجج الله وبيناته وقيل أرإد بآيات الله الإنجيل والقرآن ولذلك قال فباءوا بغضب على غضب الأول لكفرهم بعيسى والإنجيل والثاني لكفرهم بمحمد والقرآن وقيل آيات الله صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقولـه: { ويقتلون النبيين بغير الحق } أي بغير جرم كزكريا ويحيى وغيرهما وقولـه بغير الحق لا يدل على أنه قد يصح أن يقتل النبيون بحق لأن هذا خرج مخرج الصفة لقتلهم وأنه لا يكون إلا ظلماً بغير حق كقولـه تعالى:
{ { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به } [المؤمنون: 117] ومعناه أن ذلك لا يمكن أن يكون عليه برهان وكقول الشاعر:

علا لاحبٍ لا يُهتدى بمناره

ومعناه ليس هناك منار يهتدى به وفي أمثاله وقولـه { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ذلك إشارة إلى ما تقدم أيضاً بعصيانهم في قتل الأنبياء وعدوهم السبت وقيل بنقضهم العهد واعتدائهم في قتل الأنبياء والمراد إني فعلت بهم ما فعلت من ذلك بعصيانهم أمري وتجاوزهم حدي إلى ما نهيتهم عنه.
سؤال: إن قيل كيف يجوز التخلية بين الكفار وقتل الأنبياء؟ فالجواب: إنما جاز ذلك لتنال أنبياء الله سبحانه من رفع المنازل والدرجات ما لا ينالونه بغير القتل وليس ذلك بخذلان لهم كما أن التخلية بين المؤمنين والأولياء والمطيعين وبين قاتليهم ليست بخذلان لهم وقال الحسن: إن الله تعالى لم يأمر نبياً بالقتال فقتل فيه وإنما قتل من الأنبياء من قتل في غير قتال والصحيح أن النبي إن كان لم يؤد الشرع الذي أمر بتأديته لم يجز أن يمكّن الله سبحانه من قتله لأنه لو مكّن من ذلك لأدى إلى أن يكون المكلفون غير مزاحي العلة في التكليف وفيما لهم من الألطاف والمصالح فأما إذا أدى الشرع فحينئذ يجوز أن يخلي الله بينه وبين قاتليه ولم يجب عليه المنع من قتله وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة حتى كثر فيهم أولاد السبايا واختلفوا بعد عيسى بمائتي سنة" .