التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: علمتم أي عرفتم هنا تقول علمت أخاك ولم أكن أعلمه أي عرفته ولم أكن أعرفه كقولـه تعالى: { { وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } [الأنفال: 60] أي لا تعرفونهم إلا الله يعرفهم, والذين اعتدوا في موضع نصب لأنه مفعول به والفرق بينه وبين ما يتعدى إلى مفعولين إن المعرفة تنصرف إلى ذات المسمى والعلم ينصرف إلى أحواله فإذا قلت علمت زيداً فالمراد عرفت شخصه وإذا قلت علمت زيداً كريماً أو لئيماً فالعلم يتعلق بأحواله من فضل ونقص, واعتدوا أي ظلموا وجاوزوا ما حدَّ لهم والسبت من أيام الأسبوع. قال الزجاج: السبت قطعة من الدهر فسمي بذلك اليوم.
وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يوم سبت فيه خلق كل شيء أي قطع وفرغ قولـه منكم في موضع نصب حالاً من الذين اعتدوا أي المعتدين كائنين منكم. قولـه في السبت متعلق باعتدوا وأصل السبت مصدر يقال يسبت سبتاً إذا قطع ثم سمي اليوم سبتاً وقد يقال يوم السبت فيخرج مصدراً على أصله وقد قالوا اليوم السبت فجعلوا اليوم خبراً عن السبت كما يقال اليوم القتال فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف تقديره في يوم السبت وقال قوم إنما سمي بذلك لأن اليهود يسبتون فيه أي يقطعون فيه الأعمال وقال آخرون سمي بذلك لما لهم فيه من الراحة لأن أصل السبت هو السكون والراحة ومنه قولـه:
{ { وجعلنا نومكم سباتاً } [النبأ: 9] ويقال للنائم مسبوت لاستراحته وسكون جسده والقردة جمع قرد والأنثى قردة والخاسىء المبعد المطرود يقال خسأت الكلب أخسَأه خسْأً وخَسِىء الكلبُ يخسؤ خَسَأً تقول خَسَأته وخَسِىء وانخسأ قال الراجز:

كَالكَلْبِ إنْ قُلْتَ لَهُ اخْسَأ انْخَسَأ

أي إن طردته انطرد.
المعنى: خاطب اليهود فقال: { ولقد علمتم } أي عرفتم: { الذين اعتدوا منكم في السبت } أي الذين جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت وكان الحيتان تجتمع في يوم السبت لأمنها فحبسوها في السبت وأخذوها في الأحد فاعتدوا في السبت أي ظلموا وتجاوزوا ما حدَّ لهم لأن صيدها حبسها وروي عن الحسن أنهم اصطادوا يوم السبت مستحلين بعدما نهوا عنه: { فقلنا لهم كونوا قردة } وهذا إخبار عن سرعة فعله ومسخه إياهم لا أن هناك أمراً ومعناه وجعلناهم قردة كقولـه تعالى:
{ { فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11] ولم يكن هناك قول وإنما أخبر عن تسهل الفعل عليه وتكوينه بلا مشقة.
قال ابن عباس فمسخهم الله تعالى عقوبة لهم وكانوا يتعاوون وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ثم أهلكهم الله تعالى وجاءت ريح فهبت بهم وألقتهم في الماء وما مسخ الله أمة إلا أهلكها وهذه القردة والخنازير ليست من نسل أولئك ولكن مسخ أولئك على صورة هؤلاء يدل عليه إجماع المسلمين على أنه ليس في القردة والخنازير من هو من أولاد آدم ولو كانت من أولاد الممسوخين لكانت من بني آدم وقال مجاهد لم يمسخوا قردة وإنما هو مثل ضربه الله كما قال:
{ { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [الجمعة: 5] وحكي عنه أيضاً أنه مسخت قلوبهم فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظاً ولا تتقي زجراً وهذان القولان يخالفان الظاهر الذي أكثر المفسرين عليه من غير ضرورة تدعو إليه.
وقولـه: { خاسئين } أي مبعدين عن الخير وقيل أذلاء صاغرين مطرودين عن مجاهد وفي هذه الآيات احتجاجات من الله تعالى على اليهود بنعمه المترادفة على آبائهم وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن عناد أسلافهم مرة بعد أخرى وكفرانهم وعصيانهم ثانية بعد أولى مع ظهور الآيات اللائحة والمعجزات الواضحة تعزية له صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً لفؤده وتسليته إياه عما يقاسيه من مخالفة اليهود وكيدهم وبراءة من جحودهم وكفرهم وعنادهم وليكون وقوفه على ما وقف عليه من أخبار سلفهم تنبيهاً لهم وحجة عليهم في إخلادهم إلى الهوى وإلحادهم وتحذيراً لهم من أن يحل بهم ما حل بآبائهم وأجدادهم.