التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: ادرأتم اختلفتم وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال بعد أن سكنت ثم جعلوا قبلها همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن وأصل الدرء الدفع ومنه الحديث: "ادرأوا الحدود بالشبهات" ومنه قولـه: { { ويدرأ عنها العذاب } [النور: 8] وقال رؤبة:

أدْرَكْتُهَا قُدَّامَ كلِّ مِــدْرَهِ بِالدَّفْعِ عَنّي دَرءَ كلِّ عُنْجُهِ

وقيل الدار العوج ومنه قول الشاعر:

فَنَكَّبَ عَنْهُمُ درءَ الأعادِي ودَاووا بِالْجُنُونَ مِن الْجُنُونِ

المعنى: ثم بين الله سبحانه المقصود من الأمر بالذبح فبدأ بذكر القتل وقال: { وإذ قتلتم نفساً } ذكر فيه وجهان أحدهما: أنه متقدم في المعنى على الآيات المتقدمة في اللفظ فعلى هذا يكون تأويله وإذ قتلتم نفساً: { فادارأتم فيها } فسألتم موسى فقال لكم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فقدّم المؤخر وأخّر ونحو ذا كثير في القرآن والشعر قال سبحانه: { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوَجا قيماً } [الكهف: 1-2] تقديره أنزل على عبده الكتاب قَيما ولم يجعل له عوجاً وقال الشاعر:

إنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ طَالَتْ فلَيسَ يَنَالُهَا الأوْعَالا

أي طالت الأوعال والوجه الآخر: أن الآية قد تعلقت بما هو متأخر في الحقيقة وهو قولـه: { فقلنا اضربوه ببعضها } الآية فكأنه قال فذبحوها وما كادوا يفعلون ولأنكم قتلتم نفساً فادرأتم فيها أمرناكم أن تضربوه ببعضها لينكشف أمره والمراد واذكروا إذ قتلتم نفساً وهذا خطاب لمن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أسلافهم على عادة العرب في خطاب الأبناء والأحفاد بخطاب الأسلاف والأجداد وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها فقالت فعلت بنو تميم كذا وإن كان الفاعل واحداً ويحتمل أن يكون خطاباً لمن كان في زمن موسى (ع) وتقديره وقلنا لهم وإذ قتلتم نفساً وقيل إن اسم المقتول عاميل فادرأتم فيها الهاء من فيها يعود إلى النفس أي كل واحد دفع قتل النفس عن نفسه وقيل إنها تعود إلى القتلة أي اختلفتم في القتلة لأن قولـه قتلتم يدل على المصدر وعودها إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر.
{ والله مخرج ما كنتم تكتمون } أي مظهر ما كنتم تسرون من القتل وقيل معناه أنه مخرج من غامض أخباركم ومطلع من معايبكم ومعايب أسلافكم على ما تكتمونه أنتم وهو خطاب لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم { فقلنا اضربوه ببعضها } أي قلنا لهم اضربوا القتيل ببعض البقرة واختلفوا في البعض المضروب به القتيل فقيل ضرب بفخذ البقرة فقام حياً وقال قتلني فلان ثم عاد ميتاً عن مجاهد وقتادة وعكرمة, وقيل ضرب بذَنَبها عن سعيد بن جبير, وقيل بلسانها عن الضحاك, وقيل بعظم من عظامها عن أبي العالية, وقيل بالبضعة التي بين الكتفين عن السدي, وقيل ضرب ببعض آرابها عن أبي زيد, وهذه الأقاويل كلها محتملة الظاهر والمعلوم أن الله سبحانه وتعالى أمر أن يضرب القتيل ببعض البقرة ليحيا القتيل إذا فعلوا ذلك فيقول فلان قتلني ليزول الخلف والتدارؤ بين القوم والصانع عز اسمه وإن كان قادراً على إحيائه من دون ذلك فإنما أمرهم بذلك لأنهم سألوا موسى أن يبيّن لهم حال القتيل وهم كانوا يعدّون القربان من أعظم القربات وكانوا جعلوا له بيتاً على حدة لا يدخله إلا خيارهم فأمرهم الله بتقديم هذه القربة تعليماً منه لكل من اعتاص عليه أمر من الامور أن يقدم نوعاً من القرب قبل أن يسأل الله تعالى كشف ذلك عنه ليكون أقرب إلى الإجابة وإنما أمرهم بضرب القتيل ببعضها بعد أن جعل اختيار وقت الإحياء لهم ليعلموا أن الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء الأموات في كل وقت من الأوقات.
والتقدير في الآية فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحيي كما قال سبحانه:
{ اضرب بعصاك البحر فانفلق } [الشعراء: 63] تقديره فضرب فانفلق وقولـه: { كذلك يحيي الله الموتى } يحتمل أن يكون حكاية عن قول موسى (ع) لقومه أي اعلموا بما عاينتموه أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى للجزاء ويحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى لمشركي قريش والإشارة وقعت إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة لأنه روي أنه قام حياً وأوداجُه تشخب دماً فقال قتلني فلان ابن عمي ثم قُبض.
{ ويريكم آياته } يعني المعجزات الباهرة الخارقة للعادة من إحياء ذلك الميت وغيره وقيل أراد الأعلام الظاهرة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { لعلكم تعقلون } أي لكي تستعملوا عقولكم فإن من لم يستعمل عقله ولم يبصر رشده فهو كمن لا عقل له, وقيل لكي تعقلوا ما يجب عليكم من أمور دينكم واحتج الله تعالى بهذه الآيات على مشركي العرب فيما استبعدوه من البعث وقيام الأموات بقولـهم
{ أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً } [الإسراء: 49, 98] فأخبرهم سبحانه بأن الذي أنكروه واستبعدوه لا يتعذر في اتساع قدرته ونبَّههم على ذلك بذكر المقتول وإحيائه بعد خروجه من الحياة وأبطنوا خبر قتله وكيفيته وقيامه بعد القتل حياً مخاطباً باسم قتلته مؤذناً لهم أن إحياء جميع الأموات بعد أن صاروا عظاماً باليات لا يصعب عليه ولا يتعذر بل يهون عنده ويتيسر وفيها دلالة على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبرهم بغوامض أخبارهم التي لا يجوز أن يعلمها إلا من قرأ كتب الأولين أو أوحي إليه من عند رب العالمين وقد صدَّقه مخالفوه من اليهود فيما أخبر به من هذه الأقاصيص وقد علموا أنه أُمّي لم يقرأ كتاباً ولم يرتابوا في ذلك وهذه آية صادعة وحجة ساطعة في تثبيت نبوته صلى الله عليه وسلم.