التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٧٨
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو جعفر وشيبة والحسن أماني مخففة والباقون بالتشديد وكذلك في قولـه: { { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } [النساء: 123] الحجة واللغة والإعراب فى قوله تعالى: { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } الخ.
الحجة: قال ابن جني: الأصل فيه التثقيل أماني جمع أمنية والتخفيف في هذا النحو كثير والمحذوف منه الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المدّ مع غير الإدغام نحو ياء قراطيس وحوامين وأراجيح جمع حَومانة وأرجوحة ألا تراها قد حذفت في نحو قولـه:

والبكرات الفُسَّج العطَامِسا

وقولـه:

وَغير سُفْع مُثَّلٍ يَخاممِ

يريد عطاميس ويحاميم على أن حذف الياء مع الإدغام أسهل من حذفه ولا إدغام معه وذلك أن هذه الياء لما أدغمت خفيت وكادت تستهلك فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئاً هو في حال وجوده في حكم المحذوف.
اللغة: الأُمِّي الذي لا يحسن الكتابة وإنما سمي أُمَّياً لأحد وجوه أحدها: أنه الأمة الخلقة فسمي أمياً لأنه باق على خلقته ومنه قول الأعشى:

وَإنَّ مُعـَــاوَيَةَ الأكْرَمِيـ ن حِسَانُ الوُجوهِ طِوَالُ الأُمَمْ

وثانيها: أنه مأخوذ من الأمة التي هي الجماعة أي هو على أصل ما عليه الأمة في أنه لا يكتب لأنه يستفيد الكتابة بعد أن لم يكن يكتب وثالثها: أنه مأخوذ من الأم أي هو على ما ولدته أمه في أنه لا يكتب وقيل إنما نسب إلى أمه لأن الكتابة إنما تكون في الرجال دون النساء, والأمنية ذكر فيها وجوه أحدها: أن معناها التلاوة يقال تمنى كتاب الله أي قرأ وتلا, وقال كعب بن مالك:

تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أوَّلَ لَيْلَةٍ وآخِرَهُ لاَقى حِمَامَ الْمَقَادِرِ

وقال آخر:

تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ باللَّيْلِ خَالِياً تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورُ عَلى رِسلِ

وثانيها: أن المراد بالأماني الأحاديث المختلفة عن الفراء, والعرب تقول أنت إنما تتمنى هذا القول أي تختلقه وقال بعضهم: ما تمنيت مذ أسلمت أي ما كذبت وثالثها: أن المراد بالأماني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم مثل قولـهم: { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [البقرة: 80] وقولـهم: { نحن أبناء الله وأحباؤه } [المائدة: 18] وقال الزجاج: إذا قال القائل ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه وهذا مستعمل في كلام الناس وتقول للذي يقول ما لا حقيقة له وهو يحبه هذا أمنيتي وهذه أمنيته والظن هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر لأمارة صحيحة وليس هو من قبيل الاعتقادات على الصحيح من المذهب وفي الناس من قال هو اعتقاد.
الإعراب: قال الزجاج يرتفع أمِّيون بالابتداء ومنهم الخبر وفي قول الأخفش يرتفع أميون بفعلهم كأن المعنى واستقر منهم. قال أبو علي: ليس يرتفع أميون عند الأخفش بفعلهم وإنما يرتفع بالظرف الذي هو منهم ومذهب سيبويه أنه يرتفع بالابتداء ففي منهم عنده لقولـه أميون وموضع منهم على مذهبه رفع لوقوعه موقع خبر الابتداء, فأما على مذهب الأخفش فلا ضمير لقولـه أميون في منهم ولا موضع له عنده كما لا موضع لذهب في قولك ذهب زيد وإنما رفع الأخفش الاسم بالظرف لأنه نظر إلى هذه الظروف فوجدها تجري مجرى الفعل في مواضع وفي أنها تحتمل الضمير كما يحتمله الفعل وما قام مقامه من أسماء الفاعلين وما أشبه به ويؤكد ما فيها كما يؤكد ما في الفعل وما قام مقامه في نحو مررت بقوم لك أجمعون وينصب عنها الحال كما ينصب بالفعل ويوصل بهما الأسماء الموصولة كما يوصل بالفعل والفاعل فيصير فيها ضمير الموصول كما يصير ضميره في الفعل ويوصف به النكرة كما يوصف بالفعل والفاعل فلما رآها في هذه المواضع تقوم مقام الفعل أجزاها أيضاً مبتدأ مجرى الفعل فرفع بها الاسم كما رفع بالفعل إذا قامت هذه الظروف مقام الفعل في هذه المواضع . فقال: في عندك زيد, وفي الدار عمرو, ومنهم أميون ونحو ذلك أنه يرتفع بالظرف إذ كان الظرف قد أقيم مقام الفعل في غير المواضع والدليل على أن الاسم ها هنا مرتفع بالظرف دون الفعل الذي هو استقر ونحوه أنه لو كان مرتفعاً بالفعل لجاز قائماً في الدار زيد كما يجوز قائماً استقر زيد فامتناع تقديم الحال هنا يدل على أنه لا عمل للفعل هنا وقولـه إلا أماني نصب على الاستثناء المنقطع كقولـه:
{ { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } [النساء: 157] وكقول الشاعر:

لَيْسَ بَينِي وَبَيْنَ قَيْسٍ عِتَابٌ غَيْرَ طَعْنِ الكلَى وَضَرْبِ الرِّقَابِ

وقول النابغة:

حَلَفْتُ يَمِينْاً غَيْرَ ذِيْ مَثْنَويَّةٍ وَلا عِلْمَ إلاَّ حُسْنَ ظَنِّ بِصَاحِبِ

وإن في قولـه إنَّ هم بمعنى ما أي ما هم إلا ظانّون فهم مبتدأ ويظنون خبره.
المعنى: { ومنهم } يعني ومن هؤلاء اليهود الذين قصّ الله قصصهم في هذه الآيات وقطع الطمع عن إيمانهم { أُميّون } أي غير عالمين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظاً وتلاوة لا رعاية ودراية وفيهما لما فيه عن ابن عباس وقتادة, وقال أبو عبيدة الأميون هم الأمم الذين لم ينزل عليهم كتاب والنبي الأمي الذي لا يكتب وأنشد لتُبّع:

لَهُ أُمَّةٌ سُمِّيَتْ في الزَّبُو رِ أُمِّيَّةً هِيَ خَيرُ الأمَمْ

وقولـه { لا يعلمون الكتاب } أي لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزل الله عز وجل ولا يدرون ما أودعه إياه من الحدود والأحكام والفرائض فهم كهيئة البهائم مُقلّدة لا يعرفون ما يقولون والكتاب المعنّى به التوراة أدخل عليه لام التعريف "إلاّ" بمعنى لكن "أماني" أي قولاً يقولونه بأفواههم كذباً عن ابن عباس, وقيل أحاديث يحدثهم بها علماؤهم عن الكلبي وقيل تلاوة يتلونها ولا يدرونها عن الكسائي والفراء, وقيل أماني يتمنون على الله الرحمة ويخطر الشيطان ببالهم أن لهم عند الله خيراً ويتمنون ذهاب الإسلام بموت الرسول صلى الله عليه سلم وعود الرياسة إليهم وقيل أماني يتخرصون الكذب ويقولون الباطل والتمني في هذا الموضع هو تخلّق الكذب وتخرّصه ويقوّي ذلك قولـه وإن هم إلا يظنون فبين إنهم يختلقون ما يختلقون من الكذب ظناً لا يقيناً ولو كان المعنى إنهم يتلونه لما كانوا ظانين وكذلك لو كانوا يتمنونه لأن الذي يتلوه إذا تَدبّره عَلِمه ولا يقال للمتمني في حال وجود تمنيه أنه يظن تمنيه ولا أنه شاك فيما هو عالم به واليهود الذين عاصروا النبي لم يشكوا في التوراة من عند الله.
وقولـه { وإن هم إلا يظنون } ومعناه أنهم يشكون وفي هذه الآية دلالة على أن التقليد في معاني الكتاب وفيما طريقة العلم غير جائز وإنما الاقتصار على الظن في أبواب الديانات لا يجوز وإن الحجة بالكتاب قائمة على جميع الخلق وإن لم يكونوا عالمين إذا تمكنوا من العلم به وإنَّ من الواجب أن يكون التعويل على معرفة معاني الكتاب لا على مجرد تلاوته.