التفاسير

< >
عرض

يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وما يخادعون إلا أنفسهم والباقون وما يخدعون.
الحجة: حجة من قرأ يخدعون إن فعل هنا أليق بالموضع في فاعل الذي هو في أكثر الأمر يكون لفاعلين ويدل عليه قولـه في الآية الأخرى
{ { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142] وحجة من قرأ يخادعون هو أن ينزل ما يخطر بباله من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويعاوضه إياه فيكون الفعل كأنه من اثنين فيلزم أن يقول فاعل كقول الكميت وذكر حماراً أراد الورود:

يُذَكِّرُ مَنْ أَنّى وَمَنْ أَيْنَ شُرْبِ يُؤامِرُ نُفْسَيْه كَذي الهَجْمَةِ الأَبِلِ

فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو تركه الورود والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين.
اللغة: أصل الخدع الإخفاء والإبهام بخلاف الحق والتزوير يقال خدعت الرجل أخدعه خدعاً ًبالكسر وخديعة وقالوا إنك لأخدع من ضبّ حرشته وخادعت فلاناً فخدعته والنفس في الكلام على ثلاثة أوجه النفس بمعنى الروح والنفس بمعنى التأكيد تقول جاءني زيد نفسه والنفس بمعنى الذات وهو الأصل ويقال النفس غير الروح ويقال هما اسمان بمعنى واحد ويشعرون وأصل الشعر الإحساس بالشيء من جهة تدق, ومن هذا اشتقاق الشعر لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى والوزن ولا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف والتخيل.
الإعراب: يخادعون فعل وفاعل والنون علامة الرفع والجملة في موضع نصب بكونها حالاً وذو الحال الضمير الذي في قولـه آمنّا العائد إلى من والله نصب بيخادعون والذين آمنوا عطف وما نفي وإلا إيجاب وأنفسهم نصب بأنه مفعول يخادعون الثانية وما نفي ويشعرون فعل وفاعل وكل موضع يأتي فيه إلا بعد نفي فهو إيجاب ونقض للنفي.
المعنى: معنى قولـه تعالى: { يخادعون الله } أي يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه ويعلم أنه لا يخفى عليه خافية وهذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته ما أجهله يخادع الله وهو أعلم به من نفسه أي يعمل عمل المخادع وهذا يكون من العارف, وغير العارف وقيل المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا كقولـه تعالى:
{ { وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ } [الأنفال: 62] والمفاعلة قد تقع من واحد كقولـهم عافاه الله وعاقبت اللص وطارقت النعل, فكذلك يخادعون إنما هو من واحد فمعنى يخادعون يظهرون غير ما في نفوسهم وقولـه { والذين آمنوا } أي ويخادعون المؤمنين بقولـهم إذا رأوهم قالوا آمنا وهم غير مؤمنين أو بمجالستهم ومخالطتهم إياهم حتى يفشوا إليهم أسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم والتقية أيضاً تسمى خِداعاً فكأنهم لما أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعاً من حيث إنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم ومعنى قولـه { وما يخدعون إلا أنفسهم } أنهم وإن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر فهم يخادعون أنفسهم لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت وهم يوردونها به العذاب الشديد فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم وما يشعرون أي ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم كما لو قاتل إنسان غيره فقتل نفسه جاز أن يقال إنه قاتل فلاناً ولم يقتل إلا نفسه وقولـه { وما يشعرون } يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق وبأنهم لا يعلمون ذلك.