التفاسير

< >
عرض

وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
١٣٣
ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٣٤
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة والشام سارعُوا بغير واو وكذلك هو في مصاحفهم والباقون بالواو وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق.
الحجة: والفرق بينهما استئناف الكلام إذا كان بغير واو ووصلـها بما تقدم إذا قرئ بواو لأنه يكون عطفاً على ما تقدم ويجوز أيضاً ترك الواو لأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن عطفها بالواو كما جاء في التنزيل
{ { ثلاثة رابعهم كلبهم } [الكهف: 22] { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } [الكهف: 22].
اللغة: أصل الكظم شدّ رأس القربة عن ملئها تقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئاً حزناً وكذلك إذا كان ممتلئاً غضباً لم ينتقم وكظم البعير إذا لم يجتّر، والكظامة القناة التي تجري تحت الأرض سميت بذلك لامتلائها تحت الأرض وفي غريب الحديث لأبي عبيدة عن أوس بن أبي أوس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم فتوظأ ومسح على قدميه ويقال أخذ بكظمه أي مجرى نفسه لأنه موضع الامتلاء بالنفس والفرق بين الغيظ والغضب أن الغضب ضد الرضا وهو إرادة العقاب المستحق بالمعاصي ولعنه وليس كذلك الغيظ لأنه هيجان الطبع بتَكرُّه ما يكون من المعاصي ولذلك يقال غضب الله على الكفار ولا يقال اغتاظ منهم.
المعنى: لما حذَّر الله تعالى عن الأفعال الموجبة للعقاب عقَّبه بالحثّ على الأفعال الموجبة للثواب فقال { وسارعوا } أي بادروا { إلى مغفرة من ربكم } باجتناب معاصيه ومعناه إلى الأعمال التي توجب المغفرة واختلف في ذلك فقيل سارعوا إلى الإسلام عن ابن عباس، وقيل إلى إداء الفرائض عن علي بن أبي طالب (ع)، وقيل إلى الـهجرة عن أبي العالية، وقيل إلى التكبيرة الأولى عن أنس بن مالك، وقيل إلى أداء الطاعات عن سعيد بن جبير، وقيل إلى الصلوات الخمس عن يمان، وقيل إلى الجهاد عن الضحاك، وقيل إلى التوبة عن عكرمة.
{ وجنة } أي وإلى جنة { عرضها السماوات والأرض } واختلف في معناه على أقوال أحدها: أن المعنى عرضها كعرض السماوات السبع والأرضين السبع إذا ضمّ بعض ذلك إلى بعض عن ابن عباس والحسن واختاره الجبائي والبلخي، وإنما ذكر العرض بالعظم دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم من العرض وليس كذلك لو ذكر الطول دون العرض ومثل الآية قولـه:
{ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } [لقمان: 28] ومعناه إلا كخلق وبعث نفس واحدة وقال الشاعر:

كَأَنَّ عَذِيرَهِمْ بِجُنُوبِ سُلّى نَعامٌ قـــاقَ فِــي بَلَد قفــارِ

أي عذير نعام وقال آخر:

حَسِبْتُ بُغامَ راحِلَتي عَناقاً وَما هِيَ وَيْبَ غَيرِكَ بِالْعَناقِ

أي صوت عناق وثانيها: أن معناه ثمنها لو بيعت كثمن السماوات والأرض لو بيعتا كما يقال عرضت هذا المتاع للبيع والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا يساويها شيء وإن عظم عن أبي مسلم الأصفهاني وهذا وجه مليح إلا أن فيه تعسفاً وثالثها: أن عرضها لم يرد به العرض الذي هو خلاف الطول وإنما أراد سعتها وعظمها والعرب إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض قال امرؤ القيس:

بِلادٌ عَرِيضَةٌ وَأرْضٌ أريضَةٌ مَواقِعَ عُيْثِ في فَضاءٍ عَرِيضِ

وقال ذو الرمة:

فَأعْرَضَ فِي الْمكارِمِ وَاسْتَطالا

أي توسع فيها ويسأل فيقال إذا كانت الجنة عرضها كعرض السماء والأَرض فأين تكون النار فجوابه أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: "سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل" وهذه معارضة فيها إسقاط المسألة لأَن القادر على أن يذهب بالليل حيث شاء قادر على أن يخلق النهار حيث شاء ويسأل أيضاً فيقال إذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون لـها هذا العرض؟ والجواب: أنه قيل أن الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش عن أنس بن مالك، وقيل إن الجنة فوق السماوات السبع والنار تحت الأَرضين السبع عن قتادة، وقيل إن معنى قولـهم إن الجنة في السماء أنها في ناحية السماء وجهة السماء لا أنّ السماء تحويها ولا ينكر أن يخلق الله في العلوّ أمثال السماوات والأرضين فإن صحّ الخبر أنها في السماء الرابعة كان كما يقال في الدار بستان لاتصالـه بها وكونه في ناحية منها أو يشرع إليها بابها وإن كان أضعاف الدار وقيل إن الله يريد في عرضها يوم القيامة فيكون المراد عرضها السماوات والأرض يوم القيامة لا في الحال عن أبي بكر أحمد بن علي مع تسليم أنها في السماء.
وقولـه { أعدت للمتقين } أي المطيعين لله ولرسولـه لاجتنابهم المقبّحات وفعلـهم الطاعات ويجوز لاحتجازهم بالطاعة عن العقوبة وإنما أضيفت إلى المتقين لأَنهم المقصودون بها وإن دخلـها غيرهم من الأَطفال والمجانين فعلى وجه التبع وكذلك حكم الفساق لو عفى عنهم وقيل معناه أنه لولا المتقون لما خلقت الجنة كما يقال وضعت المائدة للأَمير وهذا يدل على أن الجنة مخلوقة اليوم لأَنها لا تكون معدة إلا وهي مخلوقة.
{ الذين ينفقون في السراء والضراء } صفة للمتقين وفي معنى السراء والضراء قولان أحدهما: أن معناه في اليسر والعسر عن ابن عباس أي في حال كثرة المال وقلته والثاني: في حال السرور والاغتمام أي لا يقطعهم شيء من ذلك عن إنفاق المال في وجوه البرّ { والكاظمين الغيظ } أي المتجرعين للغيظ عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر بل يصبرون على ذلك { والعافين عن الناس } يعني الصافحين عن الناس المتجاوزين عما يجوز العفو والتجاوز عنه مما لا يؤدّي إلى الاختلال بحق الله تعالى وقيل العافين عن المملوكين { والله يحب المحسنين } أي من فعل ذلك فهو محسن والله يحبّه بإيجاب الثواب لـه ويحتمل أن يكون الإحسان شرطاً مضموماً إلى هذه الشرائط قال الثوري الإِحسان أن تحسن إلى من أساء إليك فأما من أحسن إليك فإنه متاجرة كنقد السوق خذ مني وهات.
فصل: فأوّل ما عدّد الله من أخلاق أهل الجنة السخاء ومما يؤيد ذلك من الأَخبار ما رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"السخاء شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار" وقال علي (ع): الجنة دار الأَسخياء. وقال (ع): السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ثم عدَّ تعالى بعد ذلك من أخلاق أهل الجنة كظم الغيظ. ومما جاء فيه من الأَخبار ما رواه أبو إمامة قال: قال رسول الله: "من كظم غيظه وهو قادر على إنفاذه ملأَه الله يوم القيامة رضا" وفي خبر آخر: "ملأَه الله يوم القيامة أمناً وإيماناً" وقال أيضاً: "كاظم الغيظ كضارب السيف في سبيل الله في وجه عدّوه وملأَ الله قلبه رضاً" وفي خبر آخر: "ملأَ الله قلبه يوم القيامة أمناً وأماناً" وقال (ع): "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ثم ذكر العافين عن الناس.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت" وفي هذا دليل واضح على أن العفو عن المعاصي مُرغَّب فيه مندوب إليه وإن لم يكن واجباً قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عفا رجل عن مظلمة قطّ إلاّ زاده الله بها عزّاً" ثم ذكر سبحانه أنه يحب المحسنين والمحسن هو المنعم على غيره على وجه عار من وجوه القبح ويكون المحسن أيضاً هو الفاعل للأَفعال الحسنة من وجوه الطاعات والقربات وروي أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإِبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت لـه الجارية: إن الله تعالى يقول { والكاظمين الغيظ } فقال لـها قد كظمت غيظي قالت { والعافين عن الناس } قال قد عفا الله عنكِ قالت { والله يحب المحسنين } قال اذهبي فأنتِ حرة لوجه الله.