التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الحسّ القتل على وجه الاستئصال وأصلـه من الإحساس ومنه هل تُحِسّ منهم من أحد وسميّ القتل حساً لأنه يبطل الحس والفشل الجبن.
الإعراب: صدق يتعدى إلى مفعولين وجواب إذا في قولـه حتى إذا فشلتم قيل فيه وجهان أحدهما: أنه محذوف وتقديره حتى إذا فشلتم امتحنتم والثاني: أنه على زيادة الواو والتقديم والتأخير وتقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم عن الفراء وقال هذا كقولـه:
{ فلما أسلما وتَلّـه للجبين وناديناه } [الصافات: 103] ومعناه والواو زيادة وحتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وأنشد:

حَتَّى إذا قَمِلَتْ بُطُونُكُمْ وَرَأيْتُـــم أبْناءَكُــمْ شَبُّوا
وَقَلَبْـــتُمُ ظَهْرَ الْمَجِنِّ لَنا إنَّ اللَّئِيمَ الْعاجِزُ الْخَبُّ

والبصريون لا يجيزون هذا ويؤولون جميع ما استشهد به على الحذف لأنه أبلغ في الكلام وأحسن.
النزول: ذكر ابن عباس والبراء بن عازب والحسن وقتادة أن الوعد المذكور في الآية كان يوم أحد لأن المسلمين كانوا يقتلون المشركين حتى إذا أخل الرماة بمكانهم الذي أمرهم الرسول بالمقام عنده فأتاهم خالد من ورائهم وقتل عبد الله بن جبير ومن معه وتراجع المشركون وقتل من المسلمين سبعون رجلاً ونادى مناد قتل محمد ثم منَّ الله على المسلمين فرجعوا وفي ذلك نزلت الآية.
المعنى: ثُمَّ بيَّن تعالى أنه صدقهم وعده فقال: { ولقد صدقكم الله وعده } معناه وفى الله لكم بما وعدكم من النصر على عدوكم في قولـه: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } الآية وقيل كان الوعد قول رسول الله للرماة لا تبرحوا هذا المكان فإنّا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم { إذ تحسونهم } أي تقتلونهم { بإذنه } أي بعلمه وقيل بلطفه لأن أصل الإذن هو الإطلاق في الفعل واللطف تيسير للفعل كما أن الإذن كذلك فحسن أجراء اسمه عليه { حتى إذا فشلتم } معناه جبنتم عن عدوكم وكففتم { وتنازعتم في الأمر } أي اختلفتم { وعصيتم } أمر نبيكم في حفظ المكان { من بعد ما أراكم ما تحبون } من النصرة على الكفار وهزيمتهم والظفر بهم والغنيمة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالجميع يوم أحد وقال أبو علي الجبائي: معناه إن تحسونهم يوم بدر حتى إذا فشلتم يوم أحد وتنازعتم وعصيتم يوم أحد من بعد ما أراكم ما تحبون يوم بدر، والأولى أن يكون حكاية عن يوم أحد على ما بينّاه وجواب إذا ها هنا محذوف يدل الكلام عليه وتقديره حتى إذا فعلتم ذلك ابتلاكم وامتحنكم ورفع النصرة عنكم.
{ منكم من يريد الدنيا } يعني الغنية وهم الذين أخلوا المكان الذي رتّبهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه وأمرهم بلزومه { ومنكم من يريد الآخرة } أراد عبد الله بن جبير ومن ثبت مكانه أي يقصد بجهاده إلى ما عند الله وروي عن ابن مسعود قال ما كنت أدري أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا هذه الآية يوم أحد.
{ ثم صرفكم عنهم } قد ذكرنا في إضافة انصرافهم إلى الله سبحانه وجوه أحدها: أنهم كانوا فريقين منهم من عصى بانصرافه ومنهم من لم يعص لأنهم قلّوا بعد انهزام تلك الفرقة فانصرفوا بإذن الله لئلا يقتلوا لأن الله تعالى أوجب ثبات المائة للمائتين فإذا نقصوا لا يجب عليهم ذلك فجاز أن يذكر الفريقين بأنه صرفهم وعفا عنهم يعني صرف بعضهم وعفا عن بعض عن أبي علي ا لجبائي وثانيها: أن معناه رفع النصرة عنكم ووكلكم إلى أنفسكم بخلافكم للنبي صلى الله عليه وسلم فانهزمتم عن جعفر بن حرب وثالثها: أن معناه لمن يأمركم بمعاودتهم من فورهم ليبتليكم بالمظاهرة في الإنعام عليكم والتخفيف عنكم عن البلخي.
وقولـه { ليبتليكم } معناه ليختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل وذلك أنه تعالى إنما يجازي عباده على ما يفعلونه دون ما قد علمه منهم { ولقد عفا عنكم } أي صفح عنكم بعدما عفا عنهم في ذلك وقال أبو علي الجبائي هو خاص بمن لم يعص الله بانصرافه والأولى أن يكون عاماً في الجميع فإنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد عفا لـهم عن المعصية { والله ذو فضل على المؤمنين } أي ذو منّ ونعمة عليهم بنعم الدنيا والدين وقيل بغفران ذنوبهم وقيل بأن لا يستأصلـهم كما فعل بمن كان قبلـهم وروى الواحدي بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي قال خرج رسول الله يوم أحد وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه فكانت فاطمة بنته تغسل عنه الدم وعلي بن أبي طالب (ع) يسكب عليها بالمجنّ فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى إذا صار رماداً ألزمته الجرح فاستمسك الدم.