التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١٥٦
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
١٥٧
وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ
١٥٨
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم بما يعملون بالياء والباقون بالتاء وقرأ نافع وأهل الكوفة غير عاصم مِتُّم بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا ها هنا وقرأ الباقون مُتُّم بضم الميم وقرأ مما يجمعون بالياء حفص عن عاصم والباقون تجمعون بالتاء.
الحجة: قال أبو علي حجة من قرأ بالتاء قولـه: { لا تكونوا كالذين كفروا } وحجة من قرأ بالياء أن قبلـها أيضاً غيبة وهو قولـه: { وقالوا لإخوانهم } وما بعده فحمل الكلام على الغيبة والأشهر الأقيس في متمُّ ضم الميم والكسر شاذ في القياس ونحوه مما شذّ فَضِل يَفْضُلُ في الصحيح وأنشدوا:

ذَكَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ بدارِ ابْنِ عامِرٍ وَما مَرَّ مِن عُمْرِي ذَكَرْتُ وَما فَضلْ

وأما تجمعون بالتاء فالمعنى على تجمعون أيها المقتولون في سبيل الله أو المائتون ومعنى الياء أنه لمغفرة من الله خير مما يجمعه غيركم.
اللغة: الضرب في الأرض السير فيها وأصلـه الضرب باليد وقيل هو الإيغال في السير وغُزًّى جمع غاز نحو ضارب وضُرَّب وطالب وطُلَّب.
الإعراب: قولـه: { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } وضع إذا موضع إذ لأحد أمرين إما لأنه متصل بلا تكونوا كهؤلاء إذا ضرب إخوانهم في الأرض وإما لأن { الذي } إذا كان مبهماً غير موقّت يجري مجرى ما في الجزاء فيقع الماضي فيه موضع المستقبل نحو إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله معناه يكفرون ويصدون ويجوز لأكرمن الذي أكرمك إذا زرته لإبهام الذي ولا يجوز لأكرمنَّ هذا الذي أكرمك إذا زرته لتوقيت الذي من أجل الإشارة إليه بهذا وقولـه: { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } اللام فيه يتعلق بلا تكونوا أي لا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذا القول ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم وقيل إنه يتعلق بقولـه: { وقالوا لإخوانهم } فيكون لام العاقبة عن أبي علي الجبائي.
وقولـه: { لئن قتلتم } استغنى عن جواب الجزاء فيه بجواب القسم في قولـه لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون وقد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى جواب وكان جواب القسم أولى بالذكر لأن لـه صدر الكلام مما يذكر في حشوه واللام في قولـه: { ولئن } مُتمّ تحتمل أمرين أحدهما: أن يكون خلفاً من القسم ويكون اللام في قولـه: { لإلى الله } جواباً كقولك والله إن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله والثاني: أن تكون مؤكدة لما بعدها كما تؤكد أنّ ما بعدها وتكون الثانية جواباً لقسم محذوف والنون لا بد منها في الفعل المضارع مع لام القسم لأن القسم أحق بالتأكيد من كل ما يدخلـه النون من جهة أن ذكر القسم دليل على أنه من مواضع التأكيد فإذا جازت في غيره من الأمر والنهي والاستفهام والعرض والجزاء مع ما لزمت في القسم لأنه أحق بها من غيره والفرق بين لام القسم ولام الابتداء أن لام الابتداء يصرف الاسم إليه فلا يعمل فيه ما قبلـها نحو قد علمت لزيد خير منك وقد علمت أن زيداً ليقوم وليس كذلك لا القسم لأنها لا تدخل على الاسم ولا يكسر لـها إنّ نحو قد علمت أنَّ زيداً ليقومن ويلزمها النون في المستقبل.
المعنى: ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أقوالـهم وأفعالـهم فقال: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } يريد عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين عن السدي ومجاهد وقيل هو عام { وقالوا لإخوانهم } من أهل النفاق { إذا ضربوا في الأرض } أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معاش فماتوا عن السدي وابن إسحاق وإنما خصّ الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البرّ وقيل اكتفى بذكر البر عن ذكر البحر كقولـه تعالى:
{ سرابيل تقيكم الحرّ } [النحل: 81] وقيل لأن الأرض تشتمل على البر والبحر { أو كانوا غزّى } أي غزاة محاربين للعدو فقتلوا { لو كانوا } مقيمين { عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } معناه قالوا هذا القول ليثبطوا المؤمنين عن الجهاد فلم يقبل المؤمنون ذلك وخرجوا ونالوا العزّ والغنيمة فصار حسرة في قلوبهم، واللام على هذا في ليجعل لام العاقبة وقيل معناه ولا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذه المقالة لكي يجعل الله تلك المقالة سبباً لإلزام الحسرة والحزن في قلوبهم لما يحصل لـهم من الخيبة فيما أملوا من الموافقة ولما فاتهم من عز الظفر والغنيمة.
{ والله يحيي ويميت } أي هو الذى يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل لا مقدّم لما أخّر ولا مؤخّر لما قدّم ولا رادّ لما قضى ولا محيص عما قدّر، وهذا يتضمن منع الناس عن التخلف في الجهاد خشية القتل، فإن الإحياء والإماتة بيد الله سبحانه فلا حياة لمن قدّر الله موته ولا موت لمن قدّر الله حياته { والله بما تعملون بصير } أي مبصر وقيل عليم وهذا يتضمن الترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية ثم حثَّ سبحانه على الجهاد وبيَّن أن الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة بأن قال { ولئن قتلتم } أيها المؤمنون { في سبيل الله } أي في الجهاد { أو متم } قاصدين مجاهدة الكفار استوجبتم { مغفرة من الله ورحمة } والمغفرة الصفح عن الذنوب والرحمة الثواب والجنة وهاتان { خير مما يجمعون } من الأموال والمقاصد الدنيوية وهذا يتضمن تعزية المؤمنين وتسليتهم عما أصابهم في سبيل الله وفيه تقوية لقلوبهم وتهوين للموت والقتل عليهم ثم قال { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } أي سواء متم أو قتلتم فإن مرجعكم إلى الله فيجزي كلا منكم كما يستحقه المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فآثروا ما يقربكم منه ويوجب لكم رضاه من العلم بطاعته والجهاد في سبيلـه ولا تركنوا إلى الدنيا وفي هذا المعنى البيت الذي ينسب إلى الإمام الحسين بن علي:

فَإِنْ تَكُنِ الأَبْدانُ لِلْمَوْتِ أُنْشِئَتْ فَقَتْلُ امْرِئٍ بِالسَيْفِ فِي اللَّـهِ أَفْضَلُ

سؤال: إن قيل كيف عادل بين مغفرة الله ورحمته وبين حطام الدنيا مع تفاوت ما بينهما ولا يقول أحد الدرة خير من البعرة؟ فجوابه: إن الناس يؤثرون الدنيا على الآخرة حتى أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله محبة للاستكثار من الدنيا وإيثاراً للمقام فيها فعلى هذا جاز ذلك.