التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
١٨١
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
١٨٢
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة سيُكتب بضم الياء وقتلُـهم بالرفع ويقول بالياء وقرأ الباقون سنكتب بالنون وقتلـهم بالنصب ونقول بالنون.
الحجة: الوجه في قراءة من قرأ سنكتب أن النون ها هنا بعد الاسم الموضوع للغيبة فهو مثل قولـه
{ بل الله مولاكم } [آل عمران: 150] ثم قال { { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [آل عمران: 151] وقولـه { { كتب الله لأَغلبن أنا ورسلي } [المجادلة: 21] وقولـه { ونقول } معطوف على سنكتب والوجه في قراءة حمزة وقتلُـهم أنه عطف على ما قالوا وهو في موضع رفع ومن قال وقتلـهم فإنه عطفه على ما قالوا أيضاً وهو في موضع نصب بأنه مفعول به.
اللغة: يقال سمع يسمع سمعاً إذا أدرك بحاسة الأُذن والله يسمع من غير إدراك بحاسة والسميع من هو على حالة يسمع لأَجلـها المسموعات إذا وجدت، والسامع المدرك لذلك. وقال المحققون: إن الله تعالى سميع فيما لم يزل وسامع عند وجود المسموع وكونه سميعاً بصيراً عالماً بمعناه. وقال أبو القاسم البلخي: فائدة كونه سميعاً بصيراً أنه يعلم المسموعات والمبصرات وهو لا يثبت للقديم تعالى صفة الإِدراك. وقال الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه إلا أنه توسع وجاء في الخبر:
" حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك " كنّى بذلك عن الجماع وهذا من الكنايات المليحة والحريق النار وكذلك الحرَق بفتح الراء والحرْق بسكونه المصدر لقولـهم حرقت الشيء إذا بردته بالمبرد.
الإعراب: موضع الباء في قولـه بما قدمت أيديكم رفع لأَنها في موضع خبر المبتدأ وهو ذلك وهي متصلة بالاستقرار كأنه قيل ذلك استقر بما قدمت أيديكم { وأَنَّ الله } إنما فتح أنَّ لأنه معطوف على ما عمل فيه الباء وتقديره وبأن الله فموضعه جرّ.
النزول: لما نزلت
{ { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [البقرة: 245] و [الحديد: 11] قالت اليهود إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وقائلـه حيي بن أخطب عن الحسن ومجاهد، وقيل كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فدخل أبو بكر بيت مدراسهم فوجد ناساً كثيراً منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال لـه فنحاص بن عازوراء فدعاهم إلى الإِسلام والصلاة والزكاة فقال فنحاص: إن كان ما تقول حقاً فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء ولو كان غنياً لما استقرضنا أموالنا فغضب أبو بكر وضرب وجهه فأنزل الله هذه الآية عن عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق.
المعنى: ثم ذكر سبحانه خصلة أخرى من خصالـهم الذميمة فقال { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير } قيل معناه أدرك قولـهم وقيل علم ذلك عن البلخي { إن الله فقير } أي ذو حاجة لأَنه يستقرض منا { ونحن أغنياء } عن الحاجة وقد علموا أن الله لا يطلب القرض وإنما ذلك تلطيف في الاستدعاء إلى الإِنفاق وإنما قالوه تلبيساً على أعوامهم وقيل معناه قالوا إن الله فقير لأَنه يضيق علينا الرزق ونحن أغنياء لأَنا نوسع الرزق على أهالينا.
{ سنكتب ما قالوا } قيل معناه سنحفظ ما قالوا وكنّى بالكتابة عن الحفظ لأَنه طريق إلى الحفظ وقيل نأمر بكتب ذلك في صحائف أعمالـهم وإنما يفعل ذلك مبالغة في الزجر عن المعصية لأَن المكلف إذا علم أن أفعالـه وأقوالـه مكتوبة في الصحائف وأنه لا بد من عرضها عليه ومن قراءته على رؤوس الأَشهاد يوم التناد كان ذلك أبلغ لـه في الزجر عن المآثم وأمنع عن ارتكاب الجرائم.
{ وقتلـهم الأَنبياء بغير حق } أي وسنكتب قتل أسلافهم الأَنبياء ورِضى هؤلاء به فنجازي كُلاًّ بفعلـه وفيه دلالة على أن الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم لأَن اليهود الذين وُصفوا بقتل الأَنبياء لم يتولوا ذلك بأنفسهم وإنما ذُمّوا بذلك لأَنهم بمنزلة من تولاه في عظم الإِثم { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } يعني المحرق وإنما الفائدة فيه أن يعلم أن العذاب بالنار التي تحرق وهي الملتهبة لأن ما لم تلتهب لا يسمى حريقاً وقد يكون العذاب بغير النار ويفيد قولـه { ذوقوا } أنكم لا تتخلصون من ذلك يقال ذق هذا البلاء أي أنك لست بناج منه { ذلك } إشارة إلى ما سبق أي ذلك العقاب { بما قدمت أيديكم } معناه بما كنتم عملتموه وجنيتموه على أنفسكم.
{ وأن الله ليس بظلام للعبيد } أي بأن الله لا يظلم أحداً من عباده وإنما أضافه إلى اليد وإن كانت تكتسب الذنوب بجميع الجوارح لأَن عامة ما يكسبه الإِنسان إنما يكسبه بيده ولأَن العادة قد جرت بإضافة الأَعمال التي يلابسها الإِنسان إلى اليد وإن كان اكتسبها بجارحة أخرى فجرى خطاب القديم تعالى على عادتهم وفي هذا دلالة على بطلان مذهب المجبرة لأَنه يدل على أنه لو وقع العقاب من غير جرم سلف من العبد لكان ظلماً وذلك على خلاف ما يذهبون إليه من أنه سبحانه يعذّب الكفار من غير جرم سلف منهم وأنه يخلق فيهم الكفر ثم يعذبهم عليه لأَنه لا ظلم أعظم من ذلك وإنما ذكر لفظ الظلاّم وهو للتكثير تأكيداً لنفي الظلم عنه.