التفاسير

< >
عرض

لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٩٢
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: البِرّ أصلـه من السعة ومنه البَرّ خلاف البحر والفرق بين البِرّ والخير أن البِرّ هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك والخير يكون خيراً وإن وقع عن سهو وضدّ البِرّ العقوق وضدّ الخير الشر.
المعنى: { لن تنالوا البر } أي لن تدركوا بر الله تعالى بأهل طاعته. واختلف في البرّ هنا فقيل هو الجنة عن ابن عباس ومجاهد، وقيل هو الطاعة والتقوى عن مقاتل وعطاء، وقيل معناه لن تكونوا أبراراً أي صالحين أتقياء عن الحسن { حتى تنفقوا مما تحبّون } أي حتى تنفقوا المال وإنما كُنّي بهذا اللفظ عن المال لأن جميع الناس يحبّون المال وقيل معناه ما تحبون من نفائس أموالكم دون أرذالـها كقولـه تعالى:
{ ولا تيمَّموا الخبيث منه تنفقون } [البقرة: 267] وقيل هو الزكاة الواجبة وما فرضه الله في الأموال عن ابن عباس والحسن، وقيل هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات عن مجاهد وجماعة.
وقد روي عن أبي الطفيل قال اشترى علي (ع) ثوباً فأعجبه فتصدق به وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة ومن أحبّ شيئاً فجعلـه لله قال الله تعالى يوم القيامة قد كان العباد يكافؤون فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافيك اليوم بالجنة " وروي "أن أبا طلحة قسم حائطاً لـهُ في أقاربهِ عند نزول هذه الآية وكان أحب أموالـه إليه فقال لـهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ ذلك مال رابح لك وجاء زيد بن حارثة بفرس لـهُ كان يحبّها فقال هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فكأنّ زيداً وجد في نفسه وقال إنما أردت أن أتصدق به فقال رسول الله: أما إن الله قد قبلـها منك" وأعتق ابن عمر جارية كان يحبّها وتلا هذه الآية وقال: لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها وأضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً فقال للضيف: "إني مشغول وإن لي إبلاً فاخرج وأتني بخيرها فذهب فجاء بناقة مهزولة" فقال لـه أبو ذر: خنتني بهذه فقال وجدت خير الإبل فحلـها فذكرت يوم حاجتكم إليه فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أن الله يقول: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وقال أبو ذر: في المال ثلاثة شركاء القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها من هلك أو موت والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم وأنت الثالث فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن هذا الجمل كان مما أُحبُّ من مالي فأحببت أن أقدمه لنفسي وقال بعضهم: دلَّـهم بهذه الآية على الفتوة فقال { لن تنالوا البر } أي بري بكم إلا ببركم بإخوانكم والإنفاق عليهم من مالكم وجاهكم وما تحبون فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي.
{ وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } جاء بالفاء على جواب الشرط وإن كان الله يعلم ذلك على كل حال وفيه وجهان أحدهما: أن تقديره وما تنفقوا من شيء فإن الله يجازيكم به قلَّ أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليهِ شيء منه والآخر: أن تقديره فإنه يعلمه الله موجوداً على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النية أو قبحها فإن قيل الكلام خرج مخرج الحَثّ على الانفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب والأولى أن يكون المراد لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية فقال:
" "هو أن ينفق العبد المال وهو شحيح يأمل الدنيا ويخاف الفقر" .
" النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلـها أنه لما ذكر في الآية الأولى { لن يقبل من أحدهم ملء الأَرض ذهباً } وصل ذلك بقولـه { لن تنالوا البر حتى تنفقوا } لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.