التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
١٠٢
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: أسلحة جمع سلاح مثل حمار وأحمرة والسلاح اسم لجملة ما يدفع به الناس عن أنفسهم في الحروب مما يقاتل به خاصة لا يقال للدواب وما أشبهها سلاح والجناح الاسم من جنحت عن المكان إذا عدلت عنه وأخذت جانباً عن القصد وأذى مقصور يقال إذى فلان يأذى أذًى مثل فزع يفزع فزعاً.
الإعراب: وَلْيأخذوا القراءة على سكون اللام والأصل وَلِيأخذوا بالكسر إلاَّ أن الكسر يستثقل فيحذف استخفافاً وكذلك فلتقم { ولتأتِ } وموضع أن تضعوا نصب أي لا إثم عليكم في أن تضعوا فلما سقطت في عمل ما قبل أن فيها وعلى المذهب الآخر يكون موضعها جرّاً بإضمار حرف الجر وإنما قال: { طائفة أُخرى } ولم يقل آخرون وقال: { لم يصلوا } فليصلوا ولم يقل لم تصل فلتصل حملاً للكلام تارة على اللفظ، وأُخرى على المعنى كما قال:
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [الحجرات: 9] ولم يقل اقتتلا ومثله كثير.
المعنى: ثم ابتدأ تعالى ببيان صلاة الخوف في جماعة فقال { وإذا كنت } يا محمد { فيهم } يعني في أصحابك الضاربين في الأرض الخائفين عدوَّهم أن يغزوهم { فأقمت لهم الصَّلاة } بحدودها وركوعها وسجودها عن الحسن وقيل معناه أقمت لهم الصَّلاة بأن تؤمهم { فلتقم طائفة منهم } أي من أصحابك الذين أنت فيهم { معك } في صلاتك وليكن سائرهم في وجه العدو وتقديره ولتقم طائفة منهم تجاه العدو ولم يذكر ما ينبغي أن تفعله الطائفة غير المصلية لدلالة الكلام عليه { وليأخذوا أسلحتهم } اختلف في هذا فقيل المأمور بأخذ السلاح الطائفة المصلية مع رسول الله يأخذون من السلاح مثل السيف يتقلدون به والخنجر يشدّونه إلى دروعهم وكذلك السكين ونحو ذلك وهو الصحيح. وقيل: هم الطائفة التي بإزاء العدو دون المصلية عن ابن عباس.
{ فإذا سجدوا } يعني الطائفة التي تُصلي معه وفرغوا من سجودهم { فليكونوا من ورائكم } يعني فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين للعدو، واختلف في الطائفة الأُولى إذا رفعت رؤوسهم من السجود، وفرغت من الركعة كيف يصنعون فعندنا أنهم يصلون ركعة أُخرى، ويتشهدون ويسلمون والإمام قائم في الثانية ثم ينصرفون إلى مواقف أصحابهم ويجيء الآخرون فيستفتحون الصَّلاة ويصلّي بهم الإمام الركعة الثانية حسب ويطيل تشهده حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ثم يسلم بهم الإمام فيكون للطائفة الأُولى تكبيرة الافتتاح وللثانية التسليم وهو مذهب الشافعي أيضاً.
وقيل: إن الطائفة الأُولى إذا فرغت من ركعة يسلمون ويمضون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأُخرى ويصلي بهم ركعة وهو مذهب مجاهد وجابر ومن يرى أن صلاة الخوف ركعة واحدة. وقيل: إن الإمام يُصلّي بكل طائفة ركعتين فيصلّي بهم مرتين بكل طائفة مرة عن الحسن. وقيل: إنه إذا صلّى بالطائفة الأُولى ركعة مضوا إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأُخرى فيكبّرون ويصلّي بهم الركعة الثانية ويسلم الإمام ويعودون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأُولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنهم لاحقون ويسلمون ويرجعون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيقضون ركعة بغير قراءة لأنهم مسبوقون عن عبد الله بن مسعود وهو مذهب أبي حنيفة { ولتأتِ طائفة أُخرى لم يصلوا } وهم الذين كانوا بإزاء العدو { فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } يعني وليكونوا حذرين من عدوهم متأهبين لقتالهم بأخذ الأسلحة أي آلات الحرب وهذا يدل على أن الفرقة المأمورة بأخذ السلاح في الأول هم المصلون دون غيرهم.
{ ود الذين كفروا } معناه تمنى الذين كفروا { لو تغفلون } لو تعتزلون { عن أسلحتكم } وتشتغلون عن أخذها تأهباً للقتال { وأمتعتكم } أي وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها { فيميلون عليكم ميلة واحدة } أي يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم متشاغلون بصلاتكم فيصيبون منكم غِرّةً فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم وما معكم. المعنى: لا تتشاغلوا بأجمعكم بالصَّلاة عند مواقفة العدو فيتمكن عدوكم من أنفسكم وأسلحتكم ولكن أقيموها على ما أمرتم به، ومن عادة العرب أن يقولوا ملنا عليهم بمعنى حملنا.
"قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري لرسول الله ليلة العقبة الثانية: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله: لم نؤمر بذلك" يعني في ذلك الوقت.
{ ولا جناج عليكم إن كان بكم أذًى من مطر } معناه لا حرج عليكم ولا إثم ولا ضيق إن نالكم أذى من مطر وأنتم مواقفو عدوكم { أو كنتم مرضى } يعني إعِلاّء أو جرحى { أن تضعوا أسلحتكم } إذا ضعفتم عن حملها لكن إذا وضعتموها فاحترسوا منهم { وخذوا حذركم } لئلا يميلوا عليكم وأنتم غافلون { إن الله أعدّ للكافرين عذاباً مهيناً } مذلاً يبقون فيه أبداً.
وفي الآية دلالة على صدق النبي وصحة نبوته، وذلك أنها نزلت والنبي بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلّى النبي وأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهمَّ المشركون بأن يُغيروا عليهم فقال بعضهم: إن لهم صلاة أُخرى أحب إليهم من هذه يعنون صلاة العصر فأنزل الله عليه هذه الآية فصلّى بهم العصر صلاة الخوف وكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد القصة. وفيها دلالة أخرى ذكر أبو حمزة في تفسيره
"إن النبي غزا محارباً وبني أنمار فهزمهم الله وأحرزوا الذراري والمال فنزل رسول الله والمسلمون ولا يرون من العدو واحداً فوضعوا أسلحتهم، وخرج رسول الله ليقضي حاجته وقد وضع سلاحه فجعل بينه وبين أصحابه الوادي إلى أن يفرغ من حاجته وقد درأ الوادي والسماء ترُشَّ فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه وجلس في ظل شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال له أصحابه يا غورث هذا محمد قد انقلع من أصحابه. فقال: قتلني الله إن لم أقتله وانحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله إلاَّ وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سَلَّه من غمده، وقال: يا محمد من يعصمك مني الآن فقال الرسول: الله فانكبّ عدوّ الله لوجهه، فقام رسول الله، فأخذ سيفه وقال: يا غورث من يمنعك مني الآن قال: لا أحد. قال: أتشهد أن لا إله إلاَّ الله وإني عبد الله ورسوله قال: لا. ولكنّي أعهد أن لا أُقاتلك أبداً ولا أُعين عليك عدوّاً فأعطاه رسول الله سيفه، فقال له غورث: والله لأنت خير مني قال (ع): إني أحق بذلك وخرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائماً على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال: الله أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلجني بين كتفي فخررت لوجهي وخرَّ سيفي وسبقني إليه محمد وأخذه ولم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول الله إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم { إن كان بكم أذى من مطر }" الآية كلها.