التفاسير

< >
عرض

يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٦
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
٢٧
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً
٢٨
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

الإعراب: ذكر في اللام من قولـه: { ليبيّن لكم } ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه أنْ وأنْ تأتي مع أمرت وأردت لأنها تطلب الاستقبال فلا يجوز أردت أنْ قمت فلما كانت أن في سائر الأفعال تطلب الاستقبال استوثقوا لها باللام وربما جمعوا بين اللام وكي لتأكيد الاستقبال قال الشاعر:

أَرادَتْ لِكَيْما لا تَرى لِيَ عَثْرَةً وَمَنْ ذَا الَذِي يُعْطَى الكَمالَ فَيكْمُلُ

وهذا قول الكسائي والفراء وأنكره الزجاج وأنشد:

أَرَدْتُ لِكَيْما يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّها سَرَاويلُ قَيْسٍ وَالوُفُودُ شُهُودُ

قال: ولو كانت اللام بمعنى إن لم تدخل على كي كما لا تدخل إن على كي. قال: ومذهب سيبويه وأصحابه إن اللام دخلت هنا على تقدير المصدر أي لإرادة البيان نحو قولـه تعالى { إن كنتم للرؤيا تعبرون } [يوسف: 43] أي إن كانت عبارتكم للرؤيا وكذلك قولـه: { { للذين هم لِرَبّهم يرهبون } [الأعراف: 154] أي رهبتهم لربهم قال كثير:

أُرِيدُ لأَنْسى ذِكْرَها فَكَأنَّما تَمَثَّلَ لِي لَيْلى بِكُلِّ سَبيلِ

والقول الثالث: إن بعض النحويين ضعَّف هذين الوجهين بأن جعل اللام بمعنى إن لم تقم به حجة قاطعة وحمله على المصدر يقتضي جواز ضربت لزيد بمعنى ضربت زيداً وهذا لا يجوز ولكن يجوز في التقديم دون التأخير نحو لزيد ضربت و { { للرؤيا تعبرون } [يوسف: 43] ولأن عمل الفعل في التقديم يضعف كعمل المصدر في التأخير، ولذلك لم يجز إلا من المتصرف. فأما ردف لكم فعلى تأويل ردف ما ردف لكم، وعلى ذلك ما يريد لكم، وكذلك قولـه: { وأمرنا لنسلم } أي أمرنا بما أمرنا لنسلم وهذه الأقوال كلها مضطربة، والوجه الصحيح فيه أن مفعول يريد محذوف تقديره يريد الله تبصيركم ليبيّن لكم.
المعنى: ثم بيَّن تعالى بعد التحليل والتحريم أنه يريد بذلك مصالحنا ومنافعنا فقال الله تعالى { يريد الله } ما يريد { ليبين لكم } أحكام دينكم، ودنياكم، وأمور معاشكم، ومعادكم { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } فيه قولان أحدهما: يهديكم إلى طريق الذين كانوا من قبلكم من أهل الحق والباطل لتكونوا مقتدين بهم متّبعين آثارهم لِما لكُم من المصلحة والآخر: سنن الذين من قبلكم من أهل الحق والباطل لتكونوا على بصيرة فيما تفعلون وتجتنبون من طرائقهم { ويتوب عليكم } أي ويقبل توبتكم. ويقال: يريد التوبة عليكم بالدعاء إليها، والحثّ عليها، وتيسير السبيل إليها، وفي هذا دلالة على بطلان مذهب المجبرة لأنه بيَّن تعالى أنه لا يريد إلا الخير والصلاح { والله عليم حكيم } مرَّ تفسيره.
{ والله يريد أن يتوب عليكم } أي يلطف في توبتكم أن وقع منك ذلك. وقيل: يريد أن يوفّقكم لها ويقوّي دواعيكم إليها { ويريد الذين يتّبعون الشهوات } فيه أقوال أحدها: أن المعنى بذلك جميع المبطلين فإن كل مبطل متبع شهوة نفسه في باطله عن ابن زيد وثانيها: أن المراد بذلك الزناة عن مجاهد وثالثها: أنهم اليهود والنصارى عن السدي ورابعها: أنهم اليهود خاصة إذ قالوا: إن الأخت من الأب حلال في التوراة والقول الأول أقرب.
{ أن تميلوا ميلاً عظيماً } أي تعدلوا عن الاستقامة عدولاً بَيِّناً بالاستكثار من المعصية وذلك أن الاستقامة هي المؤدّية إلى الثواب والفوز من العقاب والميل عنها يؤدّي إلى الهلاك واستحقاق العذاب وإذا قيل لِمَ كرَّر قولـه تعالى { يتوب عليكم } فجوابه أنه للتأكيد، وأيضاً فإن في الأول بيان أنه يريد الهداية والإنابة، وفي الثاني بيان أن إرادته خلاف إرادة أصحاب الأهواء وأيضاً أنه أتي في الثاني بأَنْ ليزول الإبهام أنه يريد ليتوب، ولا يريد أن يتوب، وإنما قال تعالى { ميلاً عظيماً } لأن العاصي يأنس بالعاصي كما يأنس المطيع بالمطيع، ويسكن الشكل إلى الشكل، ويألف به ولأن العاصي يريد مشاركة الناس إياه في المعصية ليسلم عن ذَمّهم، وتوبيخهم، ونظيره قولـه تعالى
{ ودُّوا لو تدهن فيدهنون } [القلم: 9] { ودُّوا لو تكفرون كما كفروا } [النساء: 89] وفي المثل من أحرق كُدْسَه تمنى إحراق كُدْس غيره وعلى هذا جبلت القلوب.
{ يريد الله أن يخفف عنكم } يعني في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء عن مجاهد وطاوس، ويجوز أن يريد التخفيف بقبول التوبة والتوفيق لها ويجوز أن يريد التخفيف في التكليف على العموم وذلك أنه تعالى خفَّف عن هذه الأمة ما لم يخفّف عن غيرها من الأمم الماضية { وخلق الإنسان ضعيفاً } في أمر النساء وقلة الصبر عنهنَّ، وقيل: خلق الإنسان ضعيفاً يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه.