التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: أبدى الشيء إذا أظهْره وبدا يبدو بَدوّاً إذا ظهر وبدا له رأيُه إذا تغيَّر رأيه لأنه ظهر له والبادية خلاف الحاضرة والبدو خلاف الحضر من الظهور ومنه قولـه تعالى: { { وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق } [الزمر: 48] الآية ولم يجىء في أقوال العرب البداء بمعنى الندامة وتغير الرأي وإذا كان لفظ البادىء يطلق على الله فالمراد به الإرادة والظهور دون ما يظن قوم من الجهال وعليه تشهد أقوال العرب وأشعارهم فمن ذلك:

قُلْ ما بَدا لَكَ مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبٍ حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمّاءِ

وأمثال ذلك والله أعلم.
الإعراب: أشياء في موضع جر إلا أنها فتحت لأنها لا تنصرف. قال الكسائي: أشياء أشيْا آخرها آخر حمراء وكثر استعمالها فلم تصرف وقد أجمع البصريون على أنّ قولـه: هذا خطأ ألزموه أن لا يصرف أبناء وأسماء. وقال الخليل: إن أشياء اسم للجمع كان أصله شيآء على فعلاء مثل الطَرفاء والقَضباء والحلفاء في أنها على لفظ الآحاد والمراد الجمع فاستثقلت الهمزتان بينهما ألف وليس بحاجز قوي لأجل أنه ساكن ومن جنس الهمزة ألا تراه يعود إليها إذا تحركت واستثقلت فقدموا الهمز التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فقالوا: أشياء ووزنها لفعاء كما قالوا: في أنوق أينق وفي أقوس قسي وهو مذهب سيبويه والمازني وجميع البصريين قالوا والدلالة على أن أشياء اسم مفرد ما روي من تكسيرها على أشاوى كما كسروا صحراء على صحارى حيث كانت مثلها في الإفراد. وقال الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعدة والفراء: أصل أشياء أشيياء على أفعلاء فحذفت الهمزة التي هي لام كما حذفت من قولـهم سوائيه حيث قالوا سوايه ولزم حذفها في أفعلاء لأمرين.
أحدهما: تقارب الهمزة وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة منفردة فإذا تكررت لزم الحذف والآخر: أن الكلمة جمع وقد يستثقل في الجمع ما لا يستثقل في الآحاد ووزن أشياء على هذا القول أفعاء وذكروا أن المازني ناظر الأخفش في هذا الباب فسأله كيف تصغر أشياء. فقال: أُشَيّاء. فقال له: لو كانت أفعلاء لردت في التصغير إلى واحدها. فقال: شُييآت كما قالوا في تصغير أصدقاء صديقات فقطع الأخفش فأجاب عنه أبو علي الفارسي. فقال: إن أفعلاء في هذا الموضع جاز تحقيرها وإن لم تحقر في غير هذا الموضع لأنها صارت بدلاً من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد القليل إليها كما أضيف إلى أفعال ويدل على كونها بدلاً من أفعال تذكيرهم العدد المضاف إليها نحو ثلاثة أشياء فجاز تصغير كما يجوز تصغيرها أفعال وقولـه: { إن تبد لكم تسوءكم } جملة شرطية في موضع جرّ بكونها صفة لأشياء.
النزول: اختلف في نزولها فقيل
"سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة فقام مغضباً خطيباً. فقال: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا بَيّنته لكم فقام رجل من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة وكان يطعن في نسبه. فقال: يا نبي الله من أبي. فقال: أبوك حذافة بن قيس فقام إليه رجل آخر. فقال: يا رسول الله أين أبي. فقال: في النار فقام عمر بن الخطاب وقبَّل رِجلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنا عفا الله عنك فسكن غضبه. فقال: أما والذي نفسي بيده لقد صُوّرت لي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر عن الزهري وقتادة عن أنس. وقيل: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً مرة وامتحاناً مرة فيقول له بعضهم من أبي ويقول الآخر أين أبي ويقول الآخر إذا ضلت ناقته أين ناقتي فأنزل الله عز وجل هذه الآية عن ابن عباس. وقيل: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إن الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن. وقيل: سراقة بن مالك. فقال: أفي كل عام يا رسول الله فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً. فقال رسول الله: ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" عن علي بن أبي طالب (ع) وأبي أمامة الباهلي نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي عن مجاهد.
المعنى: { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم } خاطب الله المؤمنين ونهاهم عن المسالة عن أشياء لا يحتاجون إليها في الدين إذا أُبديت وأُظهرت ساءت وحزنت وذلك نحو ما مضى ذكره من الرجل الذي سأل عن أبيه وأشباه ذلك من أُمور الجاهلية. وقيل: إن تقديره لا تسألوه عن أشياء عفا الله عنها إن تبدلكم تسوءكم فقدم وأخر فعلى هذا يكون. قولـه: { عفا الله عنها } صفة لأَشياء أيضاً ومعناه كفَّ الله عن ذكرها ولم يوجب فيها حكماً وكلام الزجاج يدل على هذا لأَنه قال: أعلم الله إن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع فإنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك وخاصة في وقت سؤال النبي صلى الله عليه وسلم على جهة تبيين الآيات فنهى الله عز وجل عن ذلك وأعلم أنه قد عفا عنها ولا وجه لمسألة ما عفا الله عنه ولعل فيه فضيحة على السائل إن ظهر وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (ع) في قولـه: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها وحَدَّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها.
وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا سُئل عن الشيء لم يجىء فيه أثر يقول هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } معناه وإن ألححتم وسألتم عنها عند نزول القرآن أظهر لكم جوابها إذا لم تقصدوا التعنت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتكلفوا السؤال عنها في الحال. وقيل: معناه وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن تحتاجون إليها في الدين من بيان محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك تكشف لكم وهذه الأَشياء غير الأَشياء الأولى إلا أنه قال: وإن تسألوا عنها لأَنه كان قد سبق ذكر الأَشياء. وقيل: إن الهاء راجعة إلى الأَشياء الأُولى فبين لهم أنكم إن سألتم عنها عند نزول القرآن في الوقت الذي يأتيه الملك بالقرآن يظهر لكم ما تسألون عنه في ذلك الوقت فلا تسألوه ودعوه مستوراً ثم قال: { عفا الله عنها } أي عفا الله عن تبعة سؤالكم ويكون تقديره عفا الله عن مسألتكم التي سلفت منكم مما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم { والله غفور حليم } فلا تعودوا إلى مثلها وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء وأما على ما ذكرنا من أن قولـه: عفا الله على التقديم فيكون تقدير الآية لا تسألوا عن أشياء ترك الله ذكرها وبيانها لأَنكم لا تحتاجون إليها في التكليف أن تظهر لكم تحزنكم وتغمكم. وقال بعضهم: إنها نزلت فيما سألت الأَمم أنبياءها من الآيات ويؤيده الآية التي بعدها.
النظم: قيل في اتصال: هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها: أنها تتصل بقولـه { تفلحون } لأَن من الفلاح ترك السؤال عما لا يحتاج إليه وثانيها: أنها تتصل بقولـه { ما على الرسول إلا البلاغ } فإنه يبلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم وثالثها: أنها تتصل بقولـه { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } أي لا تسألوه فيظهر سرائركم.