التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٠٨
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة وخلف ويعقوب استُحِقَّ بضم التاء والحاء الأَولّين جمع وقرأ حفص عن عاصم استحق بفتح التاء والحاء الأَولين بالأَلف تثنية الأُولى وقرأ الباقون استُحق بضم التاء الأَوليان بالأَلف.
الحجة والإِعراب: قال الزجاج هذا الموضع من أصعب ما في القرآن في الإِعراب، والأَوليان في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل مما في يقومان المعنى فليقم الأَوليان بالميت مقام هذين الخائنين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما فإذا ارتفع الأَوليان على البدل فالذي في استحق من الضمير معنى الوصية المعنى فليقم الأَوليان من الذين استحقت الوصية والإِيصاء عليهم، وجائز أن يرتفعا باستحق ويكون معناهما الأَوليان باليمين أي بأن يحلفا من يشهد بعدهما فإن جاز شهادة النصرانيين كان الأَوليان على هذا القول النصرانيين والآخران من غير أهل بيت الميت. وقال أبو علي: لا يخلو ارتفاعه من أن يكون على الابتداء وقد أُخّر كأنه في التقدير فالأَوليان بأمر الميت آخران من أهله أو من أهل دينه يقومان مقام الخائنيْن اللذين عثر على خيانتهما كقولـهم تميميّ أنا أو يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال فآخران يقومان مقامهما هما الأَوليان أو يكون بدلاً من الضمير الذي في يقومان أو يكون مسنداً إليه استحق.
وقد أجاز أبو الحسن فيه شيئاً آخر وهو أن يكون الأَوليان صفة لقولـه فآخران من غيركم لأَنه لما وصف آخران اختصّ فوصف لأَجل الاختصاص الذي صار له مما يوصف به المعارف ومعنى الأَوليان الأَوليان بالشهادة على وصية الميت وإنما كانا أولى به ممن اتّهم بالخيانة لأَنهما أعرف بأحوال الميت وأموره ولأَنهما من المسلمين. ألا ترى أن وصفهم بأنه استحق عليهم يدلّ على أنهم مسلمون لأَن الخطاب من أول الآية مصروف إليهم فأما ما يسند إليه استحق فلا يخلو من أن يكون الإِيصاء أو الوصية أو الإِثم أو الجار والمجرور وإنما جاز استحق الإِثم لأَن أخذه بأخذه إثم فسمي إثماً كما سمي ما يؤخذ منا بغير حق مظلمة.
قال سيبويه المظلمة اسم ما أخذ منك فلذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر. فأما قولـه: { عليهم } فيحتمل ثلاثة أضرب أحدها أن يكون على فيه بمنزلة قولك استحق على زيد مال بالشهادة أي لزمه ووجب عليه الخروج منه لأَن الشاهدين لما عثر على خيانتهما استحق عليهما ما ولياه من أمر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج منها وترك الولاية لها فصار إخراجهما منها مستحقاً عليهما كما يستحق على المحكوم عليه الخروج مما وجب عليه هذا كلام أبي علي وأقول: إن الظاهر أن الذين استحق عليهم في الآية ورثة الميت والمفهوم من كلام أبي علي هذا أن الشاهدين اللذين من غيرنا هما المعنيان بذلك على ما قرَّره والذي يصحّ في نفسي أن التقدير من الذين استحقت عليهم الوصية أو استحق عليهم الإيصاء هم عشيرة الميت.
والضرب الآخر: أن يكون على فيه بمنزلة مِنْ كأنه قال من الذين استحق منهم الإثم ومثل هذا قولـه:
{ { إذا اكتالوا على الناس } [المطففين: 2] أي من الناس والثالث أن يكون على بمنزلة في كأنه استحق فيهم وقام على مقام في كما قام في مقام علي في قولـه: { { ولأصلبنكم في جذوع النخل } [طه: 71] والمعنى من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما من غيرنا. وأقول: إن هذا المعنى أيضاً إنما يلائم الضرب الأول والذي يلائم هذا الضرب أن يقال المعنى { من الذين استحق } فيهم الإثم أي بسببهم استحق الآخران من غيرنا اللذان خانا في الوصية فيهما الإثم بخيانتهما ويمينهما الكاذبة. ثم قال أبو علي: فإن قلت هل يجوز أن يسند استحق إلى الأوليان فالقول في ذلك أنه لا يجوز لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئاً منها ولا يجوز أن يستحقا فيسندا استحق إليهما وأما من قرأ { من الذين استحق عليهم الأولين } على الجمع فهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قولـه: { من الذين استحق عليهم } تقديره من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم وإنما قيل لهم: الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر ألا ترى أنه قد تقدم: { { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } [المائدة: 106] وكذلك: { { اثنان ذوا عدل منكم } [المائدة: 106] وذكرا في اللفظ قبل قولـه: { أو آخران من غيركم } واحتجَّ من قرأ الأولين على من قرأ الأوليان بأن قال أرأيت أن كان الأوليان صغيرين أراد أنهما أن كانا صغيرين لم يقوما مقام الكبيرين في الشهادة ولم يكونا لصغرهما أولى بالميت وإن كانا كبيرين كانا أولى به فيقسمان بالله أي يقسم الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا. وقولـه: { لشهادتنا أحق من شهادتهما } متلقى به فيقسمان بالله ومن قرأ اسَتَحَقَّ عليهم الأوليان فاستحق ههنا بمعنى حَقَّ أي وجب فالمعنى فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصية ميّتهم وهم ورثته. وقال أبو علي: تقديره من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها إلى غير أهل دينه والمفعول محذوف وحذف المفعول في نحو هذا كثير. وقال الإمام المحمود الزمخشري: معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين وهذا أحسن الأقوال.
اللغة: عثر الرجل على الشيء يعثر عثوراً إذا اطلع على أمر لم يطلع عليه غيره وأعثرت فلاناً على أمر أطلعته عليه ومنه قولـه:
{ وكذلك أعثرنا عليهم } [الكهف: 21] وأصله الوقوع بالشيء من قولـهم: عثر الرجل عثاراً إذا وقعت أصبعه بشيء صدمته وعثر الفرس عثاراً قال الأعشى:

بِذاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةٍ إذا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أَوْلى بِها مِنْ أنْ يُقالَ لَعا

والعثير الغبار لأنه يقع على الوجه وغيره والعاثور حفرة تحفر ليعثر بها الأسد فيصطاد والاستحقاق والاستيجاب قريبان واستحق عليه كأنه ملك عليه حقاً وحققت عليه القضاء حقاً وأحققته إذا أوجبته ويكون حقَّ بمعنى استحق.
النزول: قالوا لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ودعا تميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله ما قبضنا له غير هذا ولا كتمناه فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما به ثم اطلعوا على إناء من فضة منقوش بذهب معهما فقالوا هذا من متاعه فقالا: اشتريناه منه ونسينا أن نخبركم به فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قولـه: { فإن عثر على أنهما استحقا إثماً } إلى آخره فقام رجلان من أولياء الميت أحدهما عمرو بن العاص والآخر المطلب بن أبي وداعة السهمي فحلفا بالله أنهما خانا وكذبا فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت وكان تميم الداري بعد ما أسلم يقول صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله وأستغفره.
المعنى: ثُمَّ بيَّنَ سبحانه الحكم بعد ظهور الخيانة من الوصيين أو الشاهدين فقال: { فإن عثر } أي اطلع وظهر: { على أنهما } أي الشاهدين عن ابن عباس والوصيين عن سعيد بن جبير: { استحقا } أي استوجبا: { إثماً } أي ذنباً بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما وقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة. وقيل: معناه استحقا عقوبة إثم من قولـه تعالى:
{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } [المائدة: 29] أي بعقوبة إثم قتلي وعقوبة معاصيك المتقدمة عن الجبائي:
{ فآخران يقومان مقامهما } أي مقام الشاهدين اللذين هما من غيرنا. وقيل: مقام الوصيين { من الذين استحق عليهم الأوليان } المعنى ليقم الأوليان بالميت من الذين استحقت عليهم الوصية أو يكون التقدير فالأولياء بأمر الميت آخران من أهله يقومان مقام الخائنين اللذين عثر على خيانتهما وقد بيَّنا ما قيل: فيه وفي القراءتين الأخريين فيما قيل، ويجوز أن يكون الأوليان بدلاً من قولـه: { آخران } فقد يجوز إبدال المعرفة من النكرة ومعنى الأوليين الأقربين إلى الميت ويجوز أن يكون معناه الأوليان باليمين وإنما كان أوليين باليمين لأن الوصيين ادَّعيا أن الميت باع الإناء فانتقل اليمين إلى الأوليين لأنهما صارا مدّعى عليهما أن مورّثهما باع الإناء وهذا كما لو أقرّ إنسان لآخر بدين وادعى قضاءه حكم بردّ اليمين إلى الذي ادعى الدين لأنه صار مدعي عليه أنه استوفى. وقيل: معناه { الأوليان } بالشهادة من المسلمين عن ابن عباس وشريح.
{ فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما }. قيل: إنه على الظاهر أي شهادتنا وقولنا في وصية صاحبنا أحق بالقبول والصدق من شهادتهما وقولـهما. وقيل: يريد به فيقولان والله ليميننا خير من يمينهما عن ابن عباس وسميت اليمين ها هنا شهادة لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك: { وما اعتدينا } أي وما جاوزنا الحق فيما طلبناه من حقنا عن ابن عباس. وقيل: فيما قلناه من أن شهادتنا أحق من شهادتهما:
{ إنا إذاً لمن الظالمين } تقديره إنا إن اعتدينا لَمِنْ جملة الظالمين لنفوسنا وهذه الآية مع الآية التي قبلها من أعوص آيات القرآن إعراباً ومعنى وحكماً ولست تجدهما في شيء من مظانهما أوفر فائدة وأغزر عائدة وأجمع علماً وأوجز لفظاً ومعنى مما لخصته لك وسقته إليك وبالله التوفيق ثُمَّ بيَّن سبحانه وجه الحكمة في استحلاف اليهود فقال: { ذلك أدنى } أي ذلك الإحلاف والأقسام أو ذلك الحكم أقرب إلى: { أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي حقّها وصدقها لا يكتمون شيئاً ولا يزيدون شيئاً لأن اليمين تردع عن أمور كثيرة لا يرتدع عنها مع عدم اليمين: { أو يخافوا } أي أقرب إلى أن يخافوا: { أن ترد أيمان } إلى أولياء الميت: { بعد أيمانهم } فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا فربما لا يحلفون كاذبين ويتحفظون في الشهادة مخافة ردّ اليمين والشهادة إلى المستحق عليهم: { واتقوا الله } أن تحلفوا أيماناً كاذبة أو تخونوا أمانة: { واسمعوا } الموعظة: { والله لا يهدي القوم الفاسقين } إلى ثوابه وجنّته.