التفاسير

< >
عرض

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٣
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة والكسائي قَسيّة بغير ألف وقرأ الباقون قاسية بالألف.
الحجة: حجة من قرأ قَسيّة أن فعيلاً قد يجيء بمعنى فاعل مثل شاهد وشهيد وعالم وعليم وعارف وعريف ومن قرأ قاسية فلأنه الأعرف والأكثر في مجرى العادة.
اللغة: القسوة خلاف اللين والرقة وأنشد أبو عبيدة:

وقد قسوت وقسا لداتي

أي فارقني لين الشباب ولدوته فالقاسي الشديد الصلابة قال أبو العباس: الدرهم إنما يُسمَّى قَسيّاً إذا كان فاسداً زائفاً لشدة صوته بالقسو الذي فيه قال أبو زبيد يصف وقع المساحي في الحجارة:

لَها صَوَاهِلُ في صُمِّ السِّلامِ كَما صاحَ القَسيَّاتُ في أَيْدِي الصَّيارِيفِ

قال أبو علي أحسب قَسيّاً في الدراهم مُعرّباً وإذا كان مُعرّباً لم يكن من القسي العربي في شيء أَلا ترى قابوس وإبليس وجالوت وطالوت ونحو ذلك من الأسماء الأعجمية التي من ألفاظها عربي لا يكون مشتقة من باب القبس والإبلاس يدلك على ذلك منعهم الصرف فيها والخائنة الخيانة وفاعلة في أسماء المصادر كثير نحو عافاه الله عافية وأهلكوا بالطاغية وليس لوقعتها كاذبة. ويقال: سمعت ثاغية الغنم وراغية الإبل وقد يقال رجل خائنة على المبالغة قال الشاعر:

حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالوَفاءِ وَلَمْ تَكُنْ لِلْغَـــدْر خائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ

قولـه: مغل الإصبع بدل من خائنة.
الإعراب: ما في قولـهم { فبما نقضهم } زائدة مؤكدة أي فبنقضهم ميثاقهم ومثله قول الشاعر:

لشيء ما يُسوَّد من يسودُ

يحرفون في موضع نصب على الحال من قولـه: { فبما نقضهم ميثاقهم } أي محرفين الكلم ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً ويكون التمام عند قولـه قاسية وقليلاً منهم نصب على الاستثناء من الهاء والميم في قولـه: { على خائنة منهم }
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال { فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم } فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تعجبن يا محمد من هؤلاء اليهود الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك وينكثوا العهد الذي بينك وبينهم ويغدروا بك فإن ذلك دأبهم وعادة أسلافهم الذين أخذت ميثاقهم على طاعتي في زمن موسى وبعثت منهم اثني عشر نقيباً فنقضوا ميثاقي وعهدي فلعنتهم بنقضهم ذلك العهد والميثاق. وفي الكلام محذوف اكتفى بدلالة الظاهر عليه وتقديره فنقضوا ميثاقهم فلعناهم بنقضهم ذلك الميثاق والعهد المؤكد أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا على وجه العقوبة عن عطاء وجماعة. وقيل: معناه مسخناهم قردة وخنازير عن الحسن ومقاتل. وقيل: عذبناهم بالجزية عن ابن عباس وكان نقضهم الميثاق من وجوه فمنها أنهم كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء ونبذوا الكتاب وضيَّعوا حدوده وفرائضه عن قتادة ومنها أنهم كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس.
{ وجعلنا قلوبهم قاسية } أي يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين عن ابن عباس ومعناه سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وهذا كما يقول الإنسان لغيره أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدئ وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصّها وقيل معناه بيّنا عن حال قلوبهم وما هي عليها من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم موعظة عن الجبائي وقيل معنى قاسية رديئة فاسدة مثل الدراهم القسية إذا كانت زائفة وهذا راجع إلى معنى اليبس أيضاً لأنها تكون يابسة الصوت لما فيها من الغش والفساد ويقال: للرحيم لين القلب ولغير الرحيم يابس القلب.
{ يحرفون الكلم عن مواضعه } أي يفسرونه على غير ما أنزل ويغيرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون التحريف بأمرين أحدهما: سوء التأويل والآخر: التغيير والتبديل كقولـه تعالى:
{ { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } [آل عمران: 78].
{ ونسوا حظاً مما ذكروا به } وتركوا نصيباً مما وعظوا به وممّا أمروا به في كتابهم من اتباع النبي فصار كالمنسي عندهم ولو آمنوا به واتبعوه لكان ذلك لهم حظاً. وقيل: معناه ضيعوا ما ذكرهم الله به في كتابه مما فيه رشدهم وتركوا تلاوته فنسوه على مرّ الأيام { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } يعني على خيانة أي معصية عن ابن عباس. وقيل: كذب وزور ونقض عهد ومظاهرة للمشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما كان يظهر من اليهود من أنواع الخيانات. وقيل: إن معناه تطلع على فرقة خائنة أي جماعة خائنة منهم إذا قالوا قولاً خالفوه وإذا عاهدوا عهداً نقضوه { إلا قليلاً منهم } لم يخونوا { فاعف عنهم واصفح } ما داموا على عهدك ولم يخونوك عنى بهم القليل الذي استثناهم عن أبي مسلم وقيل: معناه فاعف عنهم إذا تابوا وبذلوا الجزية عن الحسن وجعفر بن مبشر واختاره الطبري. وقيل: إنه منسوخ بقولـه:
{ { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } [التوبة: 29] عن قتادة وقيل منسوخ بقولـه: { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } [الأنفال: 58] عن الجبائي { إن الله يحب المحسنين } ظاهر المعنى.