التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

الإعراب: قال سيبويه: وكثير من النحويين ارتفع السارق والسارقة على معنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة أي حكم السارق والسارقة ومثله قولـه تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا } [النور: 2] واللذان يأتيانها منكم فآذوهما قال سيبويه: والاختيار في هذا النصب في العربية كما تقول زيداً أضربه وأبتِ العامة القراءةِ إلاّ بالرفع يعني بالعامة الجماعة. وقرأ عيسى بن عمرو السارقَ والسارقةَ وكذلك الزانيةَ والزانيَ وقال أبو العباس المبرد: الاختيار فيه الرفع بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك زيداً فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده ومن زنى فاجلده. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار وإنما دخلت الفاء في الخبر للشرط المنوي وذكر في قراءة ابن مسعود والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم وإنما قال أيديهما ولم يقل يديهما لأنه أراد يميناً من هذا ويميناً من هذه فجمع إذ ليس في الجسد إلاّ أيديهما ولم يقل يديهما لأنه أراد يميناً من هذا ويميناً من هذه فجمع إذ ليس في الجسد إلاّ يمين واحدة.
قال الفراء: وكل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع. فقيل: قد هشمت رؤوسهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضرباً ومثله قولـه:
{ { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [التحريم: 4] قال وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح اثنان اثنان في الإنسان كاليدين والرجلين واثنان من اثنين جمع لذلك يقال قطعت أرجلهما وفقأت عيونهما فلما جرى الأكثر على هذا ذهب بالواحد إذا أضيف إلى اثنين مذهب الاثنين قال ويجوز التثنية كقول الهذلي:

فَتَخالَسا نَفْسَيْهِما بِنَوافِـــذٍ كَنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَعُ

لأنه الأصل ويجوز هذا أيضاً فيما ليس من خلق الإنسان كقولك للاثنين خليتما نساءكما وأنت تريد امرأتين. قال: ويجوز التوحيد أيضاً لو قلت في الكلام السارق والسارقة فاقطعوا يمينهما جاز لأن المعنى اليمين من كل واحد منهما قال الشاعر:

كلوا في بعض بطنكم تعيشوا

ويجوز في الكلام أن تقول ائتني برأس شاتين وبرأسَيْ شاة فمن قال برأس شاتين أراد الرأس من كل شاة منهما. ومن قال: برأسَيْ شاة أراد رأسي هذا الجنس. قال الزجاج: إنما جمع ما كان في الشيء منه واحد عند الإضافة إلى الاثنين لأن الإضافة تبيّن أن المراد بذلك الجمع التثنية لا الجمع وذلك أنك إذا قلت أُشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط وأصل التثنية الجمع لأنك إذا ثنيت الواحد فقد جمعت واحداً إلى واحد وربما كان لفظ الجمع أخفّ من لفظ الاثنين فيختار لفظ الجمع ولا يشتبه ذلك بالتثنية عند الإضافة إلى اثنين لأنك إذا قلت قلوبهما فالتثنية في هما قد أغنتك عن تثنية القلب. قال: وإن ثني ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند جميع النحويين وأنشد:

ظَهْراهُما مِثْلُ ظُهُورِ التُرْسَينْ

فجاء باللغتين وهذا كما حكينا عن الفراء في قول الهذلي:

فتخالسا نفسيهما

البيت وقولـه: { جزاء بما كسبا } قال الزجاج: انتصب جزاء بأنه مفعول له وكذلك نكالاً من الله وإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دلّ عليه فاقطعوا لأن معنى فاقطعوا جازوهم ونكّلوا بهم. قال الأزهري: تقديره لينكل غيره نكالاً عن مثل فعله من نكل ينكل إذا جبن.
المعنى: لمَّا ذكر تعالى الحكم فيمن أخذ المال جهاراً عقَّبه ببيان الحكم فيمن أخذ المال إسراراً فقال { والسارق والسارقة } والألف واللام للجنس فالمعنى كل من سرق رجلاً كان أو امرأة وبدأ بالسارق هنا لأن الغالب وجود السرقة في الرجال وبدأ في آية الزنا بالنساء فقال: { الزانية والزاني } لأن الغالب وجود ذلك في النساء { فاقطعوا أيديهما } أي أيمانهما عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين قال أبو علي في تخطي المسلمين إلى قطع الرجل اليسرى بعد قطع اليمنى وتركهم قطع اليد اليسرى دلالة على أن اليد اليسرى لم ترد بقولـه: { فاقطعوا أيديهما } ألا ترى أنها لو أريدت بذلك لم يكونوا ليَدَعوا نصَّ القرآن إلى غيره وهذا يدل على أن جمع اليد في هذه الآية على حدّ جمع القلب في قولـه:
{ فقد صغت قلوبكما } [التحريم: 4] ودلَّت قراءة عبد الله بن مسعود على أن المراد بالأيدي الأيمان قال العلماء: إن هذه الآية مجملة في إيجاب القطع على السارق وبيان ذلك مأخوذ من السنة.
واختلف في القدر الذي يقطع به يد السارق فقال أصحابنا يقطع في ربع دينار فصاعداً وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وأبي ثور ورووا عن عائشة عن النبي أنه قال:
" لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً " وذهب أبو حنيفة وأصحابه أنه يقطع في عشرة دراهم فصاعداً واحتجّوا بما روي عن عطاء عن ابن عباس أن أدنى ما يقطع فيه ثمن المِجَنّ قال وكان ثمن المَجِنّ على عهد رسول الله عشرة دراهم وذهب مالك أنه يقطع في ثلاثة دراهم فصاعداً وروي عن نافع عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في ثمنه مِجَنّ ثلاثة دراهم. وقال بعضهم: لا تقطع الخمس إلا في خمسة دراهم واختاره أبو علي الجبائي وقال: لأنه بمنزلة من منع خمسة دراهم من الزكاة في أنه فاسق. وقال بعضهم: تقطع يد السارق في القليل والكثير وإليه ذهب الخوارج واحتجّوا بعموم الآية وبما روي عن النبي أنه قال: " "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" " وهذا الخبر قد طعن أصحاب الحديث في سنده وذكر أيضاً في تأويله أن المراد بالبيضة بيضة الحديد التي تغفر الرأس في الحرب وبالحبل حبل السفينة.
واختلف أيضاً في كيفية القطع. فقال أكثر الفقهاء أنه إنما يقطع من الرسغ وهو المفصل بين الكف والساعد ثم إن عند الشافعي تقطع يده اليمنى في المرة الأولى ورجله اليسرى في المرة الثانية ويده اليسرى في المرة الثالثة ورجله اليمنى في المرة الرابعة ويحبس في المرة الخامسة وعند أبي حنيفة لا تقطع في الثالثة. وقال أصحابنا: إنه تقطع من أصول الأصابع وتترك له الأبهام والكف وفي المرة الثانية تقطع رجله اليسرى من أصل الساق ويترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة فإن سرق بعد ذلك خلد في السجن وهو المشهور عن علي وأجمعت الطائفة عليه وقد استدل على ذلك أيضاً بقولـه:
{ { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } [البقرة: 79] ولا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع ولا خلاف أن السارق إنما يجب عليه القطع إذا سرق من حرز إلا ما روي عن داود أنه قال: يقطع السارق وإن سرق من غير حرز والحرز في كل شيء إنما يعتبر فيه حرز مثله في العادة وحدُّه عندنا كل موضع لم يكن لغير مالكه الدخول إليه والتصرف فيه إلا بإذنه { جزاء بما كسبا } أي افعلوا ذلك بها مجازاة بكسبهما وفعلهما { نكالاً من الله } أي عقوبة على ما فعلاه قال زهير:

وَلَوْلا أنْ يَنالَ أبا طَرِيفٍ عَذابٌ مِنْ خُزَيْمَةَ أوْ نَكالُ

أي عقوبة { فمن تاب من بعد ظلمه } أي أقلع وندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة { وأصلح } أي وفعل الفعل الصالح الجميل { فإن الله يتوب عليه } أي يقبل توبته بإسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب منها ووصف الله بأنه يتوب على التائب فيه فائدة عظيمة وهي أن في ذلك ترغيباً للعاصي في فعل التوبة ولذلك وصف نفسه تعالى بالتوَّاب الرحيم ووصف العبد بأنه توَّاب ومعناه أوَّاب وهو من صفات المدح { إن الله غفور رحيم } فيه دلالة على أن قبول التوبة تفضّل من الله { ألم تعلم } قيل هو خطاب للنبي والمراد به أمته كقولـه: { { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [الطلاق: 1] وقيل: هو خطاب للمكلفين وتقديره ألم تعلم يا إنسان وإنما يتصل هذا الخطاب بما قبله اتصال الحجاج والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد والأحكام ومعناه ألم تعلم يا إنسان { إن الله له ملك السماوات والأرض } أي له التصرف فيهما بلا دافع ولا منازع { يعذّب من يشاء } إذا كان مستحقاً للعقاب { ويغفر لمن يشاء } إذا عصاه ولم يتب لأنه إذا تاب فقد وعده تعالى بأنه لا يؤاخذه بذلك بعد التوبة وعند أهل الوعيد يقبح منه أن يؤاخذه بعد التوبة فعلى الوجهين مما لا تعلق لذلك بالمشيئة { والله على كل شيء قدير } مرّ معناه.