التفاسير

< >
عرض

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
١١٢
وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
١١٣
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ عن الحسن ولتصغي إليه وليرضوه وليقترفوا بسكون اللام في الجميع والقراءة الظاهرة بكسر اللام في سائرها.
الحجة: قال أبو الفتح: هذه اللام هي الجارة أعني لام كي وهي معطوفة على الغرور من قولـه { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } أي للغرور ولأَن تصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا إلاّ أن إسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال على قوته في القياس لأَن هذا الإِسكان إنما كثر عنهم في لام الأَمر نحو قولـه تعالى
{ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا } [الحج: 29] وإنما أسكنت تخفيفاً لثقل الكسرة فيها وفرّقوا بينها وبين لام كي بأن لم يسكنوها وكأنهم إنما اختاروا السكون للام الأَمر والتحريك للام كي من حيث كانت لام كي نائبة في أكثر الأَمر عن أن وهي أيضاً في جواب كان سيفعل إذا قلت ما كان ليفعل محذوفة مع اللام البتة فلما نابت عنها قوّوها بإقرار حركتها فيها لأَن الحرف المتحرك أقوى من الساكن والأَقوى أشبه بأن ينوب عن غيره من الأَضعف.
اللغة: الزخرف زخرفة المزّين يقال زخرفه إذا زيّنه والزخرف كمال حسن الشيء وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي قيل كانت نقوش وتصاوير زينت الكعبة بها. وقيل: أراد بالزخرف الذهب والغرور ما له ظاهر تحبّه وفيه باطن مكروه والشيطان غرور لأَنه يحمل على محاب النفس ووراءه سوء العاقبة وبيع الغرر ما لا يكون على ثقة وصغوت إليه اصغي صَغْواً وصُغْواً وصُغُوّاً وصغيت أصغي بالياء أيضاً وأصغيت إليه إصغاء بمعنى قال الشاعر:

تَرى السَّفِيهَ بِهِ عن كُلِّ مُحْكَمَةٍ زَيْغٌ وفِيهِ إلى التَّشْبِيهِ إصْغاءُ

ويقال أصغيت الإِناء إذا أملته ليجتمع ما فيه ومنه الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي الإِناء للهِرّ والأَصل فيه الميل إلى الشيء لغرض من الأَغراضِ والاقتراف اكتساب الإِثم ويقال خرج يقترف لأَهله أي يكتسب لهم وقارف فلان هذا الأَمر إذا واقعه وعمله وقرف الذنب واقترفه عمله وقرفه بما ادعاه عليه أي رماه بالريبة وقرف القرحة أي قشر منها واقترف كذباً.
الإِعراب: نصب عَدُوّاً على أحد وجهين إما أن يكون مفعول جعلنا وشياطين بدل منه ومفسر له وعدواً في معنى أعداء وإما أن يكون أصله خبراً ويكون هنا مفعولاً ثانياً لجعلنا على تقدير جعلنا شياطين الإِنس والجن عدواً أي أعداء وقولـه غروراً نصب على المصدر من الفعل المتقدم لأَن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون غروراً عن الزجاج. وقيل: إنه مفعول له عن ابن جني. وقيل: نصب على البدل من زخرف عن أبي مسلم.
المعنى: ثُمَّ بينَّ ما كان عليه حال الأَنبياء (ع) مع أعدائهم تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن } أي وكما جعلنا لك شياطين الإِنس والجن أعداء كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأَنبياء وأممهم. وقيل: في معنى قولـه وجعلنا هنا وجوه:
أحدها: أن المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين فقد أمرنا من قبلك بمعاداة أعدائهم من الجن والإِنس ومتى أمر الله رسوله بمعاداة قوم من المشركين فقد جعلهم أعداء له وقد يقول الأَمير للمبارز من عسكره جعلت فلاناً قرنك في المبارزة وإنما يعني بذلك أنه أمره بمبارزته فقد جعل من يبارزه قرناً له.
وثانيها: أن معناه حكمنا بأنهم أعداء وأخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأَعداء في الاحتراز عنهم والاستعداد لدفع شرّهم وهذا كما يقال جعل القاضي فلاناً عدلاً وفلاناً فاسقاً إذا حكم بعدالة هذا وفسق ذلك.
وثالثها: أن المراد خلينا بينهم وبين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرهاً ولا جبراً لأَن ذلك يزيل التكليف.
ورابعها: أنه سبحانه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لأَنه سبحانه لما أرسل إليهم الرسل وأمرهم بدعائهم إلى الإِسلام والإِيمان وخلع ما كانوا يعبدونه من الأَصنام والأَوثان نصبوا عند ذلك العداوة لأَنبيائه (ع) ومثله قولـه سبحانه مخبراً عن نوح (ع)
{ فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } [نوح: 6] والمراد بشياطين الإِنس والجن مردة الكفار من الفريقين عن الحسن وقتادة ومجاهد. وقيل: إن شياطين الإِنس الذين يغوونهم وشياطين الجن الذين هم من ولد إبليس عن السدى وعكرمة وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس أن إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقاً منهم إلى الإِنس وفريقاً إلى الجن فشياطين الإِنس والجن أعداء الرسل والمؤمنين فيلتقي شياطين الإِنس وشياطين الجن في كل حين فيقول بعضهم لبعض أضللتُ صاحبي بكذا فأضلّ صاحبك بمثلها فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض وروي عن أبي جعفر (ع) أيضاً أنه قال إن الشياطين يلقى بعضهم بعضاً فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتى يتعلم بعضهم من بعض.
{ يوحي } أي يوسوس ويلقي خفية { بعضهم إلى بعض زخرف القول } أي الممّوه المزيّن الذي يستحسن ظاهره لا حقيقة له ولا أصل { غروراً } أي يغرونهم بذلك غروراً أو ليغروهم بذلك { ولو شاء ربك ما فعلوه } أخبر سبحانه أنه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبراً ويحول بينهم وبينه لقدر على ذلك ولو حال بينهم وبينه لما فعلوه ولكنه خلىّ بينهم وبين أفعالهم إبقاء للتكليف وامتحاناً للمكلفين. وقيل: معناه ولو شاء ربك ما فعلوه بأن ينزل عليهم عذاباً أو آية فتظل أعناقهم لها خاضعين.
{ فذرهم وما يفترون } أي دعهم وافتراءهم الكذب فإني أجازيهم وأعاقبهم أمر سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأن يخُليّ بينهم وبين ما اختاروه ولا يمنعهم منه بالقهر تهديداً لهم كما قال اعملوا ما شئتم دون أن يكون أمراً واجباً أو ندباً.
{ ولتصغي إليه } أي لتميل إلى هذا الوحي بزخرف القول أو إلى هذا القول المزخرف { أفئدة } أي قلوب { الذين لا يؤمنون بالآخرة } والعامل في قولـه ولتصغي قولـه يوحي ولا يجوز أن يكون العامل فيه جعلنا لأَن الله سبحانه لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب إلى الكفر ووحي الشياطين إلاّ أن تجعلها لام العاقبة كما في قولـه
{ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [القصص: 8] على أنه غير معلوْم أن كل من أرادوا منه الصغو قد صغى إلى كلامهم ولم يصح ذلك أيضاً في قولـه { وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } لأَنه غير معلوم حصول ذلك وعلى ما قلناه يكون جميع ذلك معطوفاً بعضه على بعض والمراد بالأَفئدة أصحاب الأَفئدة ولكن لما كان الاعتقاد في القلب وكذلك الشهوة أسند الصغو إلى القلب.
{ وليرضوه } أي ليرضوا ما أوحي إليهم من القول المزخرف { وليقترفوا } أي وليكتسبوا من الإِثم والمعاصي { ما هم مقترفون } أي مكتسبون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن ابن عباس والسدي وقال أبو علي الجبائي: إن اللام في قولـه ولتصغي وما بعده لام الأَمر والمراد بها التهديد كما قال سبحانه
{ { اعملوا ما شئتم } [فصلت: 40] واستفزز من استطعت وهذا غلط فاحش لأَنه لو كان كذلك لقال ولتصغ فحذف الأَلف وقال البلخي: اللام في ولتصغى لام العاقبة وما بعده لام الأَمر الذي يراد به التهديد وهذا جائز إلاّ أن فيه تعسفاً فالأَصح ما ذكرناه.