التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٥
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الأكنَّة جمع كنان وهو ما وقى شيئاً وستره مثل عنان وأعنة قال الليث: كل شيء وقى شيئاً فهو كنانه وكنّه والفعل منه كننت وأكننت والكَنّة امرأة الابن أو الأخ لأنها في كِنّه واستكنّ الرجل من الحر واكتن استتر والوقر الثقل في الأذن والوِقر بكسر الواو الحمل قال أبو زيد: وقرت أذنه توقر وقرأ وقال الكسائي: وقرت أذنه فهي موقورة قال الشاعر:

وَكــلامٍ سَييءٍّ قَدْ وَقِـــــرَتْ أُذُنِي مِنْهُ وما بِي مِنْ صَمَمْ

وأساطير واحدتها أسطورة وأسطارة مأخوذ من سطر الكتاب وهو سَطْر وسَطَر فمن قال سَطَر جمعه أسطاراً ومن قال سَطْر فجمعه في القليل أسْطُر والكثير سطور وقال رؤبة:

إنـَّــي وَأسْطـــارٍ سُطِرْنَ سَطْرا لَقائِلٌ يا نَصْرُ نَصْراً نَصْراً

وجمع أسطار أساطير قال الزجاج: وتأويل السطر في اللغة أن تجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً وقال الأخفش: أساطير جمع لا واحد له نحو أبابيل ومذاكير وقال بعضهم واحد الأبابيل إبّيل بالتشديد وكسر الألف والجدال الخصومة سمي بذلك لشدته. وقيل: إنه مشتق من الجدالة وهي الأرض لأن أحدهما يلقي صاحبه على الأرض.
الإعراب: أن يفقهوه موضعه نصب على أنه مفعول له المعنى لكراهة أن يفقهوه فَلمّا حذفت اللام نصبت الكراهة ولمّا حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى أن قاله الزجاج يريد أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويجادلونك في موضع نصب على الحال.
النزول: قيل إن نفراً من مشركي مكة منهم النضر بن الحارث وأبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وغيرهم جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمد فقال أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية فأنزل الله هذه الآية.
المعنى: ثم وصف الله سبحانه حالهم عند استماع القرآن فقال { ومنهم } أي ومن الكفار الذين تقدَّم ذكرهم { من يستمع إليك } يريد يستمعون إلى كلامك قال مجاهد: يعني قريشاً { وجعلنا على قلوبهم أكنَّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } قد ذكرنا فيه في سورة البقرة عند قولـه
{ { ختم الله على قلوبهم } [البقرة: 7] وقال القاضي أبو عاصم العامري: أصح الأقوال فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ويقرأ القرآن في الصلاة جهراً رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبَّر معانيه ويؤمن به فكان المشركون إذا سمعوه آذوه ومنعوه عن الجهر بالقراءة فكان الله تعالى يلقي عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنَّة ليقطعهم عن مرادهم وذلك بعد ما بلغهم مما تقوم به الحجة وتنقطع به المعذرة وبعد ما علم الله سبحانه أنهم لا ينتفعون بسماعه ولا يؤمنون به فشبَّه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم وبوقر آذانهم لأن ذلك كان يمنعهم من التدبّر كالوقر والغطاء وهذا معنى قولـه تعالى { { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } [الإسراء: 45] وهو قول أبي علي الجبائي.
ويحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أنه تعالى يعاقب هؤلاء الكفار الذين علم أنهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم تكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه ويحتمل أيضاً أن يكون سمى الكفر الذي في قلوبهم كِنّاً تشبيهاً ومجازاً وإعراضهم عن تفهّم القرآن وقراً توسّعاً لأن مع الكفر والإعراض لا يحصل الإيمان والفهم كما لا يحصلان مع الكنّ والوقر ونسب ذلك إلى نفسه لأنه الذي شبَّه أحدهما بالآخر كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان وذكر مناقبه جعلته فاضلاً وبالضد إذا ذكر مقابحه وفسقه يقول جعلته فاسقاً وكما يقال جعل القاضي فلاناً عدلاً وكلُّ ذلك يراد به الحكم عليه بذلك والإبانة عن حاله كما قال الشاعر:

جَعَلْتَنِي باخِلاً كلاّ وَرَبِّ مِنى إنِّي لأسْمَحُ كَفّاً مِنْكَ فِي الْلَزَبِ

ومعناه سميتني باخلاً { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } يريد وإن يروا كل عبرة لم يصدّقوا بها عن ابن عباس. وقيل: معناه وأن يروا كل علامة ومعجزة دالة على نبوتك لا يؤمنوا بها لعنادهم عن الزجاج ولو أجرى معنى الآية على ظاهرها لم يكن لهذا معنى لأن من لا يمكنه أن يسمع ويفقه لا يجوز أن يوصف بذلك وكان لا يصح أن يصفهم بأنهم كذبوا بآياته وغفلوا عنها وهم ممنوعون عن ذلك والذي يُزيل الإشكال أنه تعالى قال في وصف بعض الكفار { { وإذا تتلى عليه آياتنا ولىّ مستكبراً كأن لم يسمعها } [لقمان 7] الآية ولو كان في أذنيه وقر مانع عن السماع مزيل للقدرة لكان لا معنى لقولـه { كأنَّ في أذنيه وقراً } ولكان لا يستحق المذمَّة لأنه لم يعط آلة السمع فكيف يذمّ على ترك السمع.
{ حتى إذا جاءوك يجادلونك } يعني أنهم إذا دخلوا عليك بالنهار يجيئون مجيء مخاصمين مجادلين رادّين عليك قولك ولم يجيؤوا مجيء من يريد الرشاد والنظر في الدلالة الدالة على توحيد الله ونبوّة نبيّه { يقول الذين كفروا إن هذا } أي ما هذا القرآن { إلا أساطير الأولين } أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها عن الضحاك. وقيل: معنى الأساطير الترهات والبسابس مثل حديث رستم واسفنديار وغيره مما لا فائدة فيه ولا طائل تحته وقال بعضهم إن جدالهم هذا القول منهم. وقيل: هو مثل قولـهم أتأكلون ما تقتلونه بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله تعالى.