التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ
٧٧
فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٧٩
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري رأى كوكباً بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ويحيى عن أبي بكر رأى بكسر الراء والهمزة وقرأ الباقون بفتح الراء والهمزة.
الحجة: ذكر أبو علي الوجه في قراءة من لم يُمل وقراءة من أمال وأورد في ذلك كلاماً كثيراً تركنا ذكره خوفَ الإطالة.
اللغة: يقال جنّ عليه الليل وجنه الليل وأجنه الليل إذا أظلم حتى يستر بظلمته ويقال لكل ما ستر قد جن وأجن ومنه اشتقاق الجن لأنهم استجنّوا عن أعين الناس وقال الهذلي:

وَماءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرى وَقَدْ جَنَّهُ السّدَفُ الأدْهَمُ

ويقال أجننت الميت وجننته إذا واريته في اللحد وأفل يأفل أفوالاً إذا غاب قال ذو الرمة:

مَصابيحُ لَيْسَتْ باللَّواتي يَقُودُها نُجُومٌ وَلا بالآفِلاتِ الدَّوالِكِ

والبزوغ الطلوع يقال بزغت الشمس إذا طلعت ويسمى ثلاث ليال من أول الشهر الهلال ثم يسمى قمراً إلى آخر الشهر وإنما يسمى قمراً لبياضه وحمار أقمر أبيض والحنيف المائل إلى الحق.
الإعراب: السؤال يقال لم قال هذا ربي ولم يقل هذه كما قال بازغة. والجواب: إن التقدير هذا النور الطالع ربي ليكون الخبر والمخبر عنه جميعاً على التذكير كما كان جميعاً على التأنيث في رأى الشمس بازغة وقال ابن فضال المجاشعي قولـه { رأى الشمس بازغة } إخبار من الله تعالى وقولـه { هذا ربي } من كلام إبراهيم والشمس مؤنثة في كلام العرب وأما في كلام ما سواهم فيجوز أن لا تكون مؤنثة وإبراهيم (ع) لم يكن عربياً فحكى الله تعالى كلامه على ما كان في لغته ويقال لم أنَّث الشمس وذكَّر القمر والجواب أن تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها على حدِّ قولـهم نسَّابة وعلاَّمة وليس القمر كذلك لأنه دونها في الضياء ويقال لم دخلت الألف واللام فيها وهي واحدة ولم تدخل في زيد وعمرو قيل لأن شعاع الشمس يقع عليه اسم الشمس فاحتيج إلى التعريف إذا قصد إلى جرم الشمس أو إلى الشعاع على طريق الجنس أو الواحد من الجنس وليس زيد ونحوه كذلك.
المعنى: لمَّا تقدم ذكر الآيات التي أراها الله تعالى إبراهيم (ع) بيَّن سبحانه كيف استدلَّ بها وكيف عرف الحق من جهتها فقال { فلما جنَّ عليه الليل } أي أظلم عليه وستر بظلامه كل ضياء { رأى كوكباً } واختلف في الكوكب الذي رآه فقيل هو الزهرة. وقيل: هو المشتري { قال هذا ربي فلما أفل } أي غرب { قال لا أحب الآفلين } واختلف في تفسير هذه الآيات على أقوال:
أحدها: أن إبراهيم (ع) إنما قال ذلك عند كمال عقله في زمان مهلة النظر وخطور الخاطر الموجب عليه النظر بقلبه لأنه (ع) لما أكمل الله عقله وحرَّك دواعيه على الفكر والتأمل رأى الكوكب فأعظمه وأعجبه نوره وحسنه وقد كان قومه يعبدون الكواكب فقال هذا ربي على سبيل الفكر فلما أفل علم أن الأفول لا يجوز على الإله فاستدلَّ بذلك على أنه محدث مخلوق وكذلك كانت حاله في رؤية القمر والشمس فإنه لما رأى أفولهما قطع على حدوثهما واستحالة إلهيتهما وقال في آخر كلامه { يا قوم إني برىء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } إلى آخره وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى وعلمه بأن صفات المحدثين لا تجوز عليه وهذا اختيار أبي القاسم البلخي وغيره قال وزمان مهلة النظر هي أكثر من ساعة وأقل من شهر ولا يعلم ما بينهما إلا الله تعالى.
وثانيها: أنهُ إنما قال ذلك قبل بلوغه ولما قارب كمال العقل حرَّكتهُ الخواطر فيما شاهده من هذه الحوادث فلما رأى الكوكب ونوره وإشراقه وزهوره ظنَّ أنهُ ربهُ فلما أفل وانتقل من حال إلى حال قال لا أحب الآفلين { فلما رأى القمر بازغاً } عند طلوعه ورأى كبره وإشراقه وانبساط نوره وضياءه في الدنيا { قال هذا ربي فلما أفل } وصار مثل الكوكب في الأفول والغيبوبة وعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك صفة الإله { قال لئن لم يهدني ربي } إلى رشدي ولم يوفقني ويلطف بي في إصابة الحق من توحيده { لأكونن من القوم الضالين } بعبادة هذه الحوادث { فلما رأى الشمس بازغة } أي طالعة وقد ملأت الدنيا نوراً ورأى عظمها وكبرها { قال هذا ربي هذا أكبر } من الكوكب والقمر { فلما أفلت قال } حينئذ لقومه { يا قوم إني برىء مما تشركون } مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم فلما أكمل الله عقله وضبط بفكره النظر في حدوث الأجسام بأن وجدها غير منفكة من المعاني المحدثة وأنه لا بُدَّ لها من محدث قال حينئذ لقومه { إني وجهتُ وجهي } أي نفسي { للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً } أي مخلصاً مائلاً عن الشرك إلى الإخلاص { وما أنا من المشركين } وهذا اختيار أبي علي الجبائي ويسأل عن القول الأول كيف قال (ع) هذا ربي مخبراً وهو غير عالم بما يخبر به والإخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون فيه كاذباً قبيح والجواب عنه من وجهين أحدهما: أنه لم يقل ذلك مخبراً وإنما قاله فارضاً ومُقَدِّراً على سبيل التأمل كما يفرض أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام كونها قديمة ليتبيَّن ما يؤدّي إليه الفرض من الفساد ولا يكون بذلك مخبراً في الحقيقة والأخر: أنه أخبر عن ظنِّة قد يجوز أن يظنَّ المتفكر في حال فكره ونظره ما لا أصل له ثم يرجع عنه بالأدلة.
سؤال آخر: كيف تعجَّب إبراهيم (ع) من رؤية هذه الأشياء تعجُّب من لم يكن رآها وكيف يجوز أن يكون مع كمال عقله لم يشاهد السماء والكواكب والجواب أنه لا يمتنع أن يكون (ع) ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت لأنه قد روي أنه أمه كانت ولدته في مغارة خوفاً من أن يقتله نمرود وَمَنْ يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ وبلغ حدَّ التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وقد يجوز أيضاً أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم يفكر في أعلامها لأن الفكر لم يكن واجباً عليه وحين كمل عقله فكَّر في ذلك.
وثالثها: أن إبراهيم (ع) لم يقل هذا ربي على طريق الشك بل كان عالماً موقناً أن ربه سبحانه لا يجوز أن يكون بصفة الكواكب وإنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه والتنبيه لهم على أن من يكون إلهاً معبوداً لا يكون بهذه الصفة الدالة على الحدوث ويكون قولـه { هذا ربي } محمولاً على أحد الوجهين إما على أنه كذلك عندكم وفي مذاهبكم كما يقول أحدنا للمشبِّه هذا ربه جسم يتحرك ويسكن وإما على أن يكون قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه وقد كثر مجيء ذلك في كلام العرب قال أوس بن حجر:

لَعَمْرُكَ لا أَدْري وَإِنْ كُنْتُ دارِياً شُعَيْبُ بْنُ شَهْمَ أَمْ شُعَيْبُ بْنُ مِنْقَرِ

وقال الأخطل:

كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بواسِط غَلَسَ الظّلاَمِ مِنَ الرّبابِ خيالا

وقال عمر بن أبي ربيعة:

ثُمَّ قالُوا تُحِبُّــــها قُلْـــتُ بَهْراً عَدَدَ القَطْرِ وَالحَصى وَالتُّرابِ

أي أتحبها؟ وقال آخر:

رَفَوْني وَقَالُوا يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ

أي أَهُمْ هُمْ وروي عن ابن عباس أنه قال في قولـه { { فلا اقتحم العقبة } [البلد: 11] معناه أفلا اقتحم فحذف حرف الاستفهام.
ورابعها: أنه (ع) إنما قال استخداعاً للقوم يريهم قصور علمهم وبطلان عبادتهم لمخلوق جارٍ عليه أعراض الحوادث فإنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب وبعضهم يعبدون النيران وبعضهم يعبدون الأوثان فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه قال لهم هذا ربي في زعمكم كما قال
{ { أين شركائي الذين كنتم تزعمون } [القصص: 62 و 74] فأضافه إلى نفسه حكاية لقولـهم فكأنه قال لهم هذا ربي في قولكم. وقيل: إنه نوى في قلبه الشرط أي إن كان ربكم هذا الحجر كما تزعمون فهذا الكوكب وهذا القمر والشمس ربي ولم يكن الحجر ربهم ولا الكوكب ربه وفي هذه الآيات دلالة على حدوث الأجسام وإثبات الصانع.
وإنما استدل إبراهيم بالأفول على حدوثها لأن حركتها بالأفول أظهر ومن الشبهة أبعد وإذا جازت عليها الحركة والسكون فلا بُدَّ أن تكون مخلوقة محدثة وإذا كانت محدثَة فلا بُدَّ لها من محدِث، والمحدِث لا بد أن يكون قادراً ليصحَّ منه الإحداث، وإذا أحدثها على غاية الانتظام والإحكام فلا بُدَّ أن يكون عالماً وإذا كان قادراً عالماً وجب أن يكون حيًّا موجوداً. وفيها تنبيه لمشركي العرب وزجر لهم عن عبادة الأصنام وحثٌّ لهم على سلوك طريق أبيهم إبراهيم (ع) في النظر والتفكر لأنهم كانوا يعظّمون آباءهم فأعلمهم سبحانه أن اتباع الحق من دين إبراهيم الذي يُقِرُّون بفضله أوجب عليهم.
القصة: ذكر أهل التفسير والتاريخ أن إبراهيم (ع) ولد في زمن نمرود بن كنعان وزعم بعضهم أن نمرود كان من ولاة كيكاوس وبعضهم قال كان ملكاً برأسه. وقيل لنمرود أنه يولد في بلده هذه السنة مولود يكون هلاكه وزوال ملكه على يده ثم اختلفوا فقال بعضهم إنما قالوا ذلك من طريق التنجيم والتكّهن وقال آخرون بل وجد ذلك في كتب الأنبياء.
وقال آخرون رأى نمرود كأنَّ كوكباً طلع فذهب بضوء الشمس والقمر فسأل عنه فعُبّر بأنه يولد غلام يذهب ملكه على يده عن السدي فعند ذلك أمر بقتل كل ولد يولد تلك السنة وأمر بأن يعزل الرجال عن النساء وبأن يتفحص عن أحوال النساء فمن وجدت حُبلى تحبس حتى تلد فإن كان غلاماً قتل وإن كانت جارية خُليت حتى حبلت أم إبراهيم فلما دنت ولادة إبراهيم خرجت أمه هاربة فذهبت به إلى غارٍ ولفَّته في خرقة ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصُّها فتشخب لبناً وجعل يشبُّ في اليوم كما يشبُّ غيره في الجمعة ويشبُّ في الجمعة كما يشبُّ غيره في الشهر ويشبُّ في الشهر كما يشبُّ غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث.
وقيل: كانت تختلف إليه أمه فكان يمصُّ أصابعه فوجدته يمصُّ من أصبع ماء ومن أصبع لبناً ومن أصبع عسلاً ومن أصبع تمراً ومن أصبع سمناً عن أبي روق ومحمد بن إسحاق ولما خرج من السرب نظر إلى النجم وكان آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر ثم رأى الشمس فقال ما قال ولما رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم وكان يعيب آلهتهم حتى فشا أمره وجرت المناظرات.