التفاسير

< >
عرض

وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٨٣
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٤
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٥
وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٨٦
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٨٧
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة ويعقوب درجات منوّناً والباقون درجات من نشاء بالإضافة وقرأ أهل الكوفة غير عاصم واللّيْسَع بتشديد اللام وفتحها وسكون الياء ههنا وفي ص والباقون والْيَسع بسكون اللام وفتح الياء.
الحجة: من أضاف درجات ذهب إلى أنّ المرفوعة هي الدرجات لمن يشاء ومن نوَّن ذهب إلى أن المرفوع صاحب الدرجات ويقوّي قراءة من أضاف قولـه
{ { تلك الرسل فضَّلنا بعضهم على بعض } [البقرة: 253] فمن فضَّل على غيره فقد رفعت درجته عليه ويدلُّ على قراءة من نوَّن قولـه { ورفع بعضهم درجات } [البقرة: 253] لأنه في ذكر الرسل فأما قولـه { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريّاً } [الزخرف: 32] فإنه في الرتب وارتفاع الأحوال في الدنيا واتضاعها لأن قبله نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا.
وأما من قرأ اللَّيْسع باللام فإن هذه اللام زائدة قال أبو علي: اعلم أن لام المعرفة يدخل الأسماء على ضربين:
أحدهما: للتعريف والآخر زيادة زيدت كما تزاد الحروف والتعريف على ضروب منها أن يكون إشارة إلى معهود بينك وبين المخاطب نحو الرجل إذا أردت به رجلاً عرفتماه بعهد كان بينكما.
والآخر: أن يكون إشارة إلى ما في نفوس الناس من علمهم للجنس فهذا الضرب وإن كان معرفة كالأول فهو مخالف له من حيث كان الأول قد علمه حسّاً وهذا لم يعلمه كذلك إنما يعلمه معقولاً وأما نحو مررت بهذا الرجل فإنما أشير به إلى الشاهد الحاضر لا إلى غائب معلوم بعهد ألا ترى أنك تقول ذلك فيما لا عهد بينك فيه وبين مخاطبك ويدلّك على ذلك قولك في النداء يا أيها الرجل فتشير به إلى المخاطب الحاضر فأما نحو العباس والحارث والحسن فإنما دخلت الألف واللام فيها على تنزيل أنها صفات جارية على موصوفين وهذا يعني الخليل بقولـه جعلوه الشيء بعينه فإذا لم ينزل هذا التنزيل لم يلحقوها الألف واللام فقالوا حارث وعباس وعلى كلا المذهبين جاء ذلك في كلامهم قال الفرزدق:

يُقَعِّدُهُمْ أَعْراقُ حِذْيَمَ بَعْدَمـــا رَجا الهُتْمُ إدْراكَ العَلَى وَالمكارِمِ

وقال:

ثَلاث مِئينَ لِلْمُلوكِ وَفى بِها رِدائي وَجَلَّتْ عِنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ

فجعله مرة اسماً بمنزلة أضحاة وأضاح ومرة صفة بمنزلة أحمر وحمر وجمع الأعشى بين الأمرين في قولـه:

أَتانِي وَعِيدُ الحُوْصِ مِنْ آلِ جَعْفَرٍ فَيا عَبْدَ عَمْروٍ لَوْ نَهَيْتَ الأَحاوِصا

وأما قولـه:

وَالتَّيْمُ ألأَمُ مَــنْ يَمْشِي وَأَلأَمُهُـــمْ ذُهْلُ بن تَيمٍ بَنُو السُودِ المَدانِيسِ

فإنه يحتمل أمرين يجوز أن يكون بمنزلة العباس لأن التيم مصدر والمصادر قد أجريت مجرى أسماء الفاعلين فوصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين وجمع جمعها في نحو نور وأنوار وسيل وسوائل، وعلى هذا قالوا الفضل في اسم رجل كأنهم جعلوه الشيء الذي هو خلاف النقص والآخر أن يكون تيمي وتيم كزنجي وزنج فأما الألف واللام في الليسع فلا يخلو أن تكون زائدة أو غير زائدة فإن كانت غير زائدة فلا يخلو أن يكون على حد الرجل إذا أردت به المعهود أو الجنس نحو { { إن الإنسان لفي خسر } [العصر: 2] أو على دخولهما في العباس فلا يجوز أن يكون على واحد من ذلك فثبت أنه زيادة ومما جاءت اللام فيه زائدة ما أنشده أحمد بن يحيى:

يا لَيْتَ أُمَّ العَمْرِو كانَتْ صاحِبي مَكانَ مَنْ أنْشأ عَلَى الرَكائِبِ

ومما جاءت الألف واللام فيه زائدة الخمسة العشر درهماً حكاه أبو الحسن الأخفش ألا ترى أنهما اسم واحد ولا يجوز أن يُعرّف اسم واحد بتعريفين كما لا يجوز أن يتعرف بعض الاسم دون بعض وذهب أبو الحسن إلى أن اللام في اللات زائدة لأن اللات معرفة فأما العزى فبمنزلة العباس وقياس قول أبي الحسن هذا أن يكون اللام في اليسع أيضاً زائدة لأنه علم مثل اللات وليس صفة ومما جاءت اللام فيه زائدة قول الشاعر:

وَجَدْنَا الوَلِيدَ ابنَ اليَزِيدِ مُبارَكاً شَدِيداً بِأعْباءِ الخِلافَةِ كأهِلُه

فأما من قال اللَّيْسع: فإنه يكون اللام على حدّ ما في الحرث ألا ترى أنه على وزن الصفات إلا أنه وإن كان كذلك فليس له مزية على القول الآخر ألا ترى أنه لم يجىء في الأسماء الأعجمية المنقولة في حال التعريف نحو إسماعيل وإسحاق شيء على هذا النحو كما لم يجىء فيها شيء فيه لام التعريف فإذا كان كذلك كان اللَّيْسع بمنزلة اليسع في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية المختصة المعربة.
الإعراب: وتلك حجتنا تلك مبتدأ وحجتنا خبره والظاهر أن قولـه على قومه من صلة حجتنا أي وتلك حجتنا على قومه وإذا جعلت أتيناها من صفة حجتنا كان فصلاً بين الصلة والموصول وذلك لا يجوز فينبغي أن يكون متعلقاً بمحذوف هذا الظاهر تفسير له كذا نقل عن أبي علي الجبائي.
المعنى: ثُمّ بيّن سبحانه أن الحجج التي ذكرها إبراهيم (ع) لقومه آتاه إياها وأعطاها إياه بمعنى أنه هداه لها وأنه احتج بها بأمره فقال { وتلك حجتنا } أي أدلتنا { آتيناها } أي أعطيناها { إبراهيم } وأخطرناها بباله وجعلناها حججاً { على قومه } من الكفار حتى تمكن من إيرادها عليهم عند المحاجة { نرفع درجات من نشاء } من المؤمنين الذين يصدقون الله ورسوله ويطيعونه ونفضل بعضهم على بعض بحسب أحوالهم في الإيمان واليقين { إن ربك حكيم عليم } يجعل التفاوت بينهم على ما توجبه حكمته ويقتضيه علمه. وقيل: معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق بالاصطفاء للرسالة.
{ ووهبنا له } أي لإبراهيم { إسحاق } وهو ابنه من سارة { ويعقوب } ابن إسحاق { كلاًّ هدينا } أي كل الثلاثة فضلنا بالنبوة كما قال سبحانه
{ { ووجدك ضالاً فهدى } [الضحى: 7] أي ذاهباً عن النبوة فهداك إليها. وقيل: معناه كلاًّ هدينا بنيل الثواب والكرامات عن الجبائي. منَّ الله سبحانه على إبراهيم بأن رزقه الولد وولد الولد فإن من أفضل النعم على العبد أن يرزقه الله ولداً يدعو له بعد موته فكيف إذا رزق الولد وولد الولد وهما نبيّان مرسلان.
{ ونوحاً هدينا من قبل } أي من قبل هؤلاء { ومن ذريته } أي من ذرية نوح لأنه أقرب المذكورين إليهِ ولأن فيمن عددهم من ليس من ذرية إبراهيم وهو لوط وإلياس. وقيل: أرادوا ومن ذرية إبراهيم { داود } وهو داود بن إيشا { وسليمان } ابنه { وأيوب } وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم { ويوسف } بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم { وموسى } بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب { وهارون } أخاه وكان أكبر منه بسنة.
{ وكذلك نجزي المحسنين } بنيل الثواب والكرامات. وقيل: المراد به كما تفضلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوة فكذلك نتفضل على المحسنين بنيل الثواب والكرامات { وزكريا } وهو زكريا بن أذن بن بركيا { ويحيى } وهو ابنه { وعيسى } وهو ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا { وإلياس } واختلف فيه فقيل إنه إدريس كما قيل ليعقوب إسرائيل عن عبد الله بن مسعود. وقيل: هو إلياس بن بستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي الله عن ابن إسحاق. وقيل: هو الخضر عن كعب.
{ كل من الصالحين } أي من الأنبياء والمرسلين { وإسماعيل } وهو ابن إبراهيم { واليسع } بن أخطوب ابن العجوز { ويونس } بن متى { ولوطاً } وهو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم. وقيل: هو ابن أخته.
{ وكلاًّ } أي وكل واحد منهم { فضلنا على العالمين } أي عالمي زمانه ومن قال أن الهاء في قولـه { ومن ذريته } كناية عن إبراهيم قال أنه سمي ذريته إلى قولـه { وكذلك نجزي المحسنين } ثم عطف قولـه { وزكريا ويحيى } على قولـه { ونوحاً هدينا } ولا يمتنع أيضاً أن يكون غَلَّب الأكثر الذين هم من نسل إبراهيم على أن الرواية التي جاءت عن ابن مسعود أن إليأس إدريس هو جد نوح إذا لم تضعف قول من قال إن الهاء كناية عن نوح فكذلك إذا لم يكن لوط من ذرية إبراهيم لم يضعف قول من قال إن الهاء كناية عن إبراهيم وقال الزجاج: يجوز أن يكون { من ذريته } من ذرية نوح ويجوز أن يكون من ذرية إبراهيم لأن ذكرهما جميعاً قد جرى وأسماء الأنبياء التي جاءت بعد قولـه { ونوحاً } نسق على نوح وإذا جعل الله سبحانه عيسى من ذرية إبراهيم (ع) أو نوح ففي ذلك دلالة واضحة وحجة قاطعة على أن أولاد الحسن والحسين (ع) ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق وأنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح في الحديث أنه قال لهما عليهما السلام:
"ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا" وقال للحسن (ع): "إن ابني هذا سيّد" وإن الصحابة كانت تقول لكل منهما ومن أولادهما يا ابن رسول الله.
{ ومن آبائهم } يعني ومن آباء هؤلاء الأنبياء { وذرياتهم وإخوانهم } جماعة فضلناهم وقال الزجاج: معناه هدينا هؤلاء وهدينا بعض آبائهم وإخوانهم { واجتبيناهم } أي اصطفيناهم واخترناهم للرسالة وهو مأخوذ من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته { وهديناهم } أي سددناهم وأرشدناهم فاهتدوا { إلى صراط مستقيم } أي طريقٍ بَيّنٍ لا اعوجاج فيه وهو الدين الحق.