التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٩٧
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
٩٨
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب برواية روح وزيد فمستقر بكسر القاف والباقون بفتح القاف.
الحجة: قال أبو علي: من كسر القاف كان المستقر بمعنى القار فإذا كان كذلك وجب خبره أن يكون المضمر منكم أي فمنكم مستقر كقولك بعضكم مستقر أي مستقر في الأرحام ومن فتح فليس على أنه مفعول ألا ترى أنّ أستقر لا يتعدى وإذا لم يتعد لم يُبْنَ منه اسم مفعول به وإذا لم يكن مفعولاً به كان اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر كما كان المستقر بمعنى القار وإذا كان كذلك جعلت الخبر المضمر لكم والتقدير فمستقر لكم.
وأما المستودع فإنّ استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيداً ألفاً وأودعت زيداً ألفاً فاستودع مثل أودع كما أن استجاب مثل أجاب فالمستودع يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه، ومن قرأ فمستقر بفتح القاف جعل المستودع مكاناً ليكون مثل المعطوف عليه أي فلكم مكان استقرار واستيداع ومن قرأ فمستقر فالمعنى منكم مستقر في الأرحام ومنكم مستودع في الأصلاب فالمستودع اسم المفعول به فيكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان.
المعنى: ثم ذكر سبحانه ما يقارب في المعنى الآية المتقدمة فيما يدل على وحدانيته وعظيم قدرته فقال: { وهو الذي جعل } أي خلق { لكم } أي لنفعكم: { النجوم لتهتدوا بها } أي بضوئها وطلوعها ومواضعها { في ظلمات البر والبحر } لأن من النجوم ما يكون بين يدي الإنسان ومنها ما يكون خلفه ومنها ما يكون عن يمينه ومنها ما يكون عن يساره ويهتدى بها في الأسفار وفي البلاد وفي القبلة وأوقات الليل وإلى الطرق في مسالك البراري والبحار.
وقال البلخي: ليس في قولـه: { لتهتدوا بها } ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك بل خلقها سبحانه لأمور جليلة عظيمة ومن فكر في صغر الصغير منها وكبر الكبير واختلاف مواقعها ومجاريها واتصّالاتها وسيرها وظهور منافع الشمس والقمر في نشوء الحيوان والنبات علم أن الأمر كذلك ولو لم يخلقها إلا للاهتداء لما كان لخلقها صغاراً وكباراً واختلافاتها في المسير معنى وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم أن النجوم آل محمد (ع).
{ قد فصلنا الآيات } أي بينا الحجج والبينات: { لقوم يعلمون } أي يتفكرون فيعلمون { وهو الذي أنشأكم } أي أبدعكم وخلقكم { من نفس واحدة } أي من آدم (ع) لأن الله تعالى خلقنا جميعاً منه وخلق أمناً حواء، من ضلع من أضلاعه ومن علينا بهذا لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التواد والتعاطف والتآلف { فمستقر ومستودع } قد مرّ ذكرهما في الحجة، واختلف في معناهما فقيل مستقر في الرحم إلى أن يولد ومستودع في القبر إلى أن يبعث عن عبد الله بن مسعود. وقيل: مستقر في بطون الأمهات ومستودع في أصلاب الآباء عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس. وقيل: مستقر على ظهر الأرض في الدنيا ومستودع عند الله في الآخرة عن مجاهد. وقيل: مستقرها أيام حياتها ومستودعها حيث يموت وحيث يبعث عن أبي العالية. وقيل: مستقر في القبر ومستودع في الدنيا عن الحسن وكان يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وأنشد قول لبيد:

وَمَا الْمالُ والأَهْلُونَ إلاَّ وَدِيعةٌ وَلا بُدَّ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الْوَدائِعُ

وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى:

فُجِعَ الأَحِبَّةِ بالأَحِبَّةِ قَبْلَنـــا فَالنَّاسُ مَفْجُوعٌ بِهِ وَمُفَجَّعُ
مُسْتَوْدَعٌ أوْ مُسْتَقَرُّ مَدْخَلاً فَالْمُسْتَقَرُّ يَزُورُهُ الْمُسْتَوْدَعُ

{ قد فصَّلنا الآيات } أي بيَّنا الحجج وميَّزنا الأدلة { لقوم يفقهون } مواقع الحجة ومواضع العبرة وإنما خصَّ الذين يعلمون ويفقهون لأنهم المنتفعون بها كما قال هدى للمتقين وكرَّر قولـه قد فصلنا الآيات حثّاً على النظر وتنبيهاً على أن كلاً مما ذكر آية ودلالة تدلُّ على توحيده وصفاته العلى.