التفاسير

< >
عرض

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
١٤٦
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤٧
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم الرَشَد بفتح الراء والشين والباقون الرُشْد بضم الراء وسكون الشين.
الحجة: هما لغتان ويحكى أن أبا عمرو فرَّق بينهما فقال الرُشد الصلاح والرَشَد في الدين مثل قولـه
{ { مما علمت رُشداً } [الكهف: 66] و { تحرّوا رَشَداً } [الجن: 14] فهذا في الدين وقولـه { فإن آنستم منهم رُشداً } [النساء: 6] وهو في إصلاح المال والحفظ له وقد جاء الرَّشَد في غير الدين قال:

حَنَّتْ إلى نَعَمِ الدَّهْنا فَقُلتُ لَها أُمّي بِلالاً عَلَى التَّوْفيقِ وَالرَّشَدِ

اللغة: الرُشْد سلوك طريق الحق يقال رَشد يرشدُ رشاداً ورَشِد يرشَدُ رُشداً ورَشَداً وضدُّه الغيّ غوي يغوي غيّاً وغواية والحبوط سقوط العمل حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل وأصله الفساد من الحبط وهو داء يأخذ البعير في بطنه من فساد الكلأ عليه ويقال حبطت الإبل تحبط حبطاً إذا أصابها ذلك وإذا عمل الإنسان عملاً على خلاف الوجه الذي أمر به يقال أحبطه.
المعنى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبَّرون في الأرض } ذكر في معناه وجوه:
أحدها: إنه أراد سأصرف عن نيل الكرامة المتعلقة بآياتي والاعتزاز بها كما يناله المؤمنون في الدنيا والآخرة المستكبرين في الأرض بغير الحق كما فعل بقوم موسى وفرعون فإن موسى كان يقتل من القبط وكان أحد منهم لا يجسر أن يناله بمكروه خوفاً من الثعبان وعبر ببني إسرائيل البحر وغرق فيه فرعون وقومه عن أبي علي الجبائي: والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة ويحتمل أن تكون معجزات الأنبياء وفي قولـه { ذلك بأنهم كذَّبوا بآياتنا } بيان أن صرفهم عن الآيات مستحقّ بتكذيبهم.
وثانيها: أن معناه سأصرفهم عن زيادة المعجزات التي أظهرها على الأنبياء (ع) بعد قيام الحجة بما تقدَّم من المعجزات التي ثبتت بها النبوة لأن هذا الضرب من المعجزات إنما يظهر إذا كان في المعلوم أنه يؤمن عنده من لا يؤمن بما تقدَّم من المعجزات فيكون الصرف بأن لا يظهرها جملة أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم وهذا الوجه اختاره القاضي لأن ما بعده يليق به من قولـه { وإن يروا سبيل الرشد } إلى آخر الآية.
وثالثها: أن معناه سأمنع الكذابين والمتكبّرين آياتي ومعجزاتي وأصرفهم عنها وأخصُّ بها الأنبياء فلا أظهرها إلا عليهم وإذا صرفهم عنها فقد صرفهم عنهم وكلا اللفظين يفيد معنى واحداً فليس لأحد أن يقول هلاَّ قال سأصرف آياتي عن الذين يتكبَّرون وهذا يبطل قول من قال إن الله تعالى جعل النيل في أمر فرعون فكان يجري بأمره ويقف وما شاكل ذلك.
ورابعها: أن يكون الصرف معناه المنع من إبطال الآيات والحجج والقدح فيها بما يخرجها عن كونها أدلة وحججاً ويكون تقدير الآية إني أصرف المبطلين والمكذّبين عن القدح في دلالاتي بما أؤيّدها وأحكمها من الحجج والبينات ويجري ذلك مجرى قول أحدنا إن فلاناً منع أعدائه بأفعاله الحميدة وأخلاقه الكريمة من ذمّه وتهجينه وأخرس ألسنتهم عن الطعن فيه وإنما يريد المعنى الذي ذكرناه ويكون على هذا قولـه { ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا } راجعاً إلى ما قبله بلا فصل من قولـه { وإن يروا سبيل الرشد لا يتَّخذوه سبيلاً } ولا يرجع إلى قولـه { سأصرف }.
وخامسها: أن المراد سأصرف عن إبطال آياتي والمنع من تبليغها هؤلاء المتكبرين بالإهلاك أو المنع من غير إهلاك فلا يقدرون على القدح فيها ولا على قهر مبلغيها ولا على منع المؤمنين من اتباعها والإيمان بها وهو نظير قولـه
{ { والله يعصمك من الناس } [المائدة: 67] ويكون الآيات في هذا الوجه القرآن وما جرى مجراه من كتب الله التي تحملتها الأنبياء عليهم السلام ويكون قولـه { ذلك بأنهم كذَّبوا بآياتنا } على هذا متعلقاً أيضاً بقولـه { وإن يروا سبيل الرشد } إلى ما بعده ومعنى قولـه { الذين يتكبَّرون في الأرض } أي يرون لأنفسهم فضلاً على الناس وحقاً ليس لغيرهم مثله فيحملهم ذلك على ترك اتباع الأنبياء أنفة من الانقياد لهم والقبول منهم وقولـه { بغير الحق } تأكيد وبيان أن التكبُّر لا يكون إلا بغير الحق كقولـه { { ويقتلون النبيين بغير الحق } [البقرة: 61] وقد مضى ذكر أمثاله.
{ وإن يروا كل آية } أي كل حجة ودلالة تدلُّ على توحيد الله وصحة نبوة أنبيائه { لا يؤمنوا بها } هذا أخبار من الله تعالى عن هؤلاء بعلمه فيهم أنهم لا يؤمنون به وبكتبه ورسله وبيان أنه إنما صرفهم عن آياته لذلك.
{ وإن يروا سبيل الرشد لا يتَّخذوه سبيلاً } يعني إن يروا طريق الهدى والحق لا يتخذوه طريقاً لأنفسهم { وإن يروا سبيل الغي } أي طريق الضلال { يتخذوه سبيلاً } أي طريقاً لأنفسهم ويميلون إليه. وقيل: الرشد الإيمان والغيُّ الكفر. وقيل: الرشد كل أمر محمود والغي كل أمر قبيح مذموم.
{ ذلك } إشارة إلى صرفهم عن الآيات. وقيل: إشارة إلى اتخاذهم طريق الغي وترك طريق الرشد وتقديره أمرهم ذلك { بأنهم كذَّبوا بآياتنا } أي بحججنا ومعجزات رسلنا { وكانوا عنها غافلين } أي لا يتفكرون فيها ولا يتَّعظون بها والمراد بالغفلة هنا التشبيه لا الحقيقة مثل قولـه سبحانه
{ صمٌّ بكم عمي } [البقرة: 18 و 171] وذلك أنهم لما أعرضوا عن الانتفاع بالآيات والتأمل فيها أشبهت حالهم حال من كان غافلاً ساهياً عنها.
ثم بيَّن سبحانه وعيد المكذبين فقال { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } يعني القيامة والبعث والنشور { حبطت أعمالهم } التي عملوها ولا يستحقُّون بها مدحاً ولا ثواباً لأنها وقعت على خلاف الوجه المأمور به فصارت بمنزلة ما لم يعمل { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } صورته صورة الاستفهام والمراد به الإنكار والتوبيخ ومعناه ليس يجزون إلا ما عملوه إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً.
النظم: قيل في وجه اتصال الآية بما قبلها وجوه:
أحدها: أنه تقدَّم ذكر المعجزات وما رام فرعون من إبطالها فبيَّن سبحانه بقولـه { سأصرف عن آياتي } أنه يمنع عن إبطال المعجزات فيتَّصل بما تقدَّم من قصة موسى وفرعون.
وثانيها: أنه لما تقدَّم ذكر معجزات موسى نبَّه عقيبه على أنه سبحانه لا يظهر المعجزات على يد من ليس بنبي وأبان عن صدق موسى ومحمد عليهما السلام لمكان المعجزة.
وثالثها: أنه خطاب لموسى وزيادة في البيان عن إتمام ما وعده في إهلاك أعدائه وصرفهم عن الاعتراض على آياته ومعناه خذها آمناً من طعن الطاعنين فإني سأصرف.
ورابعها: أن الآيتين اعتراض بين قصة موسى والخطاب لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم والمراد أنهُ يصرف المتكبرين عن آياته كما صرف فرعون عن موسى.