التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٢
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
١٨٣
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
١٨٤
أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
١٨٥
مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٨٦
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل العراق ويَذَرْهم بالياء والجزم كوفي غير عاصم والباقون ونَذَرُهم بالنون والرفع.
الحجة: من قرأ بالنون فالتقدير وإنا نذرهم ومن قرأ بالياء ردّه إلى اسم الله تعالى أي وهو يذرهم ويكون مقطوعاً عن الأول على الوجهين ولم يكن جواباً ومن جزمه فإنه عطفه على موضع الفاء وما بعده من قولـه فلا هادي له ومثله في الحمل على الموضع قولـه فأصدق وأكن لأنه لو لم يلحق الفاء لقيل لولا أخرتني أَصَدَّقْ لأن معنى لولا اخرتني أَخَّرني أصدق ومثله قول الشاعر:

أَنّى سَلَكْتَ فَإِننّي لَكَ ناصِـــحٌ وَعَلَى انْتِقاصِكَ في الحَياةِ وَازدَدِ

وقول أبي داؤد:

فَأَبْلُونــي بَليتكُمْ لَعَلّــي أُصالِحُكُم وَأَسْتَدْرجُ نَوِيَّا

حمل استدرج على موضع الفاء المحذوفة من قولـه فلعلي أصالحكم وموضعه جزم.
اللغة: الاستدراج أصله من الدرجة وهو أن يؤخذ قليلاً قليلاً ولا يباغت كما يرتقي الراقي الدرجة فيتدرج شيئاً بعد شيء حتى يصل إلى العلو. وقيل: أصله من الدرج الذي يطوى فكأنه يطوي منزلة بعد منزلة كما يطوي الدرج ويقال درج القوم إذا مات بعضهم في أثر بعض، والإملاء التأخير والإمهال من الملي يقال مضى عليه ملي من الدهر وملاوة من الدهر بضم الميم وفتحها وكسرها أي قطعة منه وأصل الإملاء الاستمرار على العمل من غير لبث من أمليت الكتاب ومنه الملاَة للفلاة ذات الحر والسراب لاستطالة المكث فيه والمتين القوي والشديد وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب وهما متنان والكيد والمكر واحد والجنة الجنون وأصله الستر والملكوت هو الملك الأعظم للمالك الذي ليس بمملوك.
المعنى: لما ذكر سبحانه المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم الهادين بالحق ذكر بعده المكذبين بآياته فقال { والذين كذبوا بآياتنا } التي هي القرآن والمعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا بها { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } إلى الهلكة حتى يقعوا فيه بغتة كما قال سبحانه
{ { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها } [الأنبياء: 40] وقال { { فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون } [الشعراء: 202]. وقيل: يجوز أن يريد عذاب الآخرة أي نقربهم إليه درجة درجة إلى أن يقعوا فيه. وقيل: هو من المدرجة وهي الطريق ودرج إذا مشى سريعاً أي سنأخذهم من حيث لا يعلمون أيّ طريق سلكوا فإن الطريق كلها علي ومرجع الجميع إلي ولا يغلبني غالب ولا يسبقني سابق ولا يفوتني هارب.
وقيل: إنه من الدرج أي سنطويهم في الهلاك ونرفعهم عن وجه الأرض يقال طويت فلاناً وطويت أمر فلان إذا تركته وهجرته. وقيل: معناه كلما جَدَّدوا خطيئة جَدَّدنا لهم نعمة عن الضحاك ولا يصح قول من قال إن معناه نستدرجهم إلى الكفر والضلال لأن الآية وردت في الكفار وتضمنت أنه يستدرجهم في المستقبل فإن السين تختص المستقبل ولأنه جعل الاستدراج جزاء على كفرهم وعقوبة فلا بد من أن يريد معنى آخر غير الكفر.
وقولـه { وأملي لهم } معناه وأمهلهم ولا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتونني ولا يفوتني عذابهم { إن كيدي متين } أي عذابي قويّ منيع لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع وسماه كيداً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون. وقيل: أراد أن جزاء كيدهم متين والقول هو الأول.
{ أوَلَمْ يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } معناه أو لم يتفكروا هؤلاء الكفار المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته في أقواله وأفعاله فيعلموا أنه صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون إذ ليس في أقواله وأفعاله ما يدل على الجنون وتم الكلام عند قولـه { أولم يتفكروا } ثم ابتدأ فقال { ما بصاحبهم من جنة } أي ليس به جنون وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا وكان يدعو قريشاً فخذاً فخذاً إلى توحيد الله ويخوفهم عذاب الله فقال المشركون، إن صاحبهم قد جن بات ليلاً يصوت إلى الصباح فأنزل الله هذه الآية عن الحسن وقتادة.
{ إن هو إلا نذير مبين } أي ما هو إلا مُعلم موضع المخافة ليتقي ولموضع الأمن ليجتبى ومعنى مبين بيّن أمره. وقيل: مبين لهم عن الله أمره فيهم.
ثم قال { أَوَلم ينظروا } معناه أو لم يتفكروا { في ملكوت السماوات والأرض } وعجيب صنعهما فينظروا فيها نظر المستدل المعتبر فيعترفوا بأن لهما خالقاً مالكاً ويستدلوا بذلك عليه { وما خلق الله من شيء } أي وينظروا فيما خلق الله من أصناف خلقه فيعلموا بذلك أنه سبحانه خالق جميع الأجسام فإن في كل شيء خلق الله عز وجل دلالة واضحة على إثباته وتوحيده { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } أي أو لم يتفكروا وينظروا في أن عسى أن يكون قد قرب أجلهم وهو أجل موتهم فيدعوهم ذلك إلى أن يحتاطوا لدينهم ولأنفسهم مما يصيرون إليه بعد الموت من أمور الآخرة ويزهدوا في الدنيا وفيما يطلبونه من فخرها وشرفها وعزها ومعناه لعل أجلهم قريب وهم لا يعلمون.
{ فبأي حديث بعده } أي بعد القرآن { يؤمنون } مع وضوح الدلالة على أنه كلام الله المعجز إذ لم يقدر أحد منهم أن يأتي بسورة مثله وسماه حديثاً لأنه محدَث غير قديم { من يضلل الله فلا هادي له } قد ذكرنا معناه { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } معناه ونتركهم في ضلالتهم يتحيرون والعمه في القلب كالعمى في العين.