التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٢٦
يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٧
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٢٨
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي ولباسَ بالنصب والباقون بالرفع.
الحجة: قال أبو علي: أما النصب فلأَنه حمل على أنزل أي أنزلنا عليكم لباساً ولباس التقوى وقولـه ذلك على هذا مبتدأ وخبره خير ومن رفع فقال ولباس التقوى قطع اللباس من الأَول واستأنف به فجعله مبتدأ وذلك صفة أو بدل أو عطف بيان ومن قال إن ذلك لغو لم يكن على قولـه دلالة لأَنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا وخير اللباس والمعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق له من اللباس والرياش الذي يتجمل به وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف في قولـه
{ { فأذاقها الله لباس الجوع } [النحل: 112] إلى الجوع والخوف.
اللغة: اللباس كل ما يصلح للبُس من ثوب أو غيره من نحو الدرع وما يغشى به البيت من نطع أو كسوة وأصله المصدر تقول لبسه يلبسه ولباساً ولِبساً بكسر اللام قال الشاعر:

فَلَمَّا كَشَفْنَ الِلّبْسَ عَنْهُ مَسَحْنَهُ بِأطْرافِ طَفْلٍ زانَ غَيْلاً مُوَشَّما

والغيل الساعد الريان الممتلىء والريش والأَثاث متاع البيت من فراش أو دثار. وقيل: الريش ما فيه الجمال ومنه ريش الطائر. وقيل: إنه المصدر من راشه يريشه ريشاً وأنشد سيبويه:

رِيشي مِنَكُمْ وَهَوَايَ مَعكُمْ وَإنْ كانَتْ زِيارُتُكُمْ لِماما

قال الزجاج: الريش كل ما يستر الرجل في جسمه ومعيشته يقال تريش فلان أي صار له ما يعيش به وتقول العرب أعطيته رجلاً بريشه أي بكسوته وقال أبو عبيدة: الريش والرياش ما ظهر من اللباس والفتنة والابتلاء والامتحان يقال فتنت الذهب بالنار امتحنته وقلب فاتن أي مفتون قال الشاعر:

رَخيمُ الْكَلام قَطِيعُ القيام أمْسى فُؤادِي بِها فاتِنا

القبيل الجماعة من قبائل شتى فإذا كانوا من أب وأم واحد فهم قبيلة.
المعنى: لما ذكر سبحانه نعمته على بني آدم في تَبَوئِّه الدار والمستقر عَقَّبه بذكر النعمة في الملابس والستر فقال { يا بني آدم } وهو خطاب عام لجميع أهل الأَزمنة من المكلفين كما يوصي الإِنسان ولده ولد ولده بتقوى الله ويجوز خطاب المعدوم إذا كان من المعلوم أنه سيوجد ويتكامل فيه شروط التكليف.
{ قد أنزلنا عليكم لباساً } قيل إدنه أنزل ذلك مع آدم وحواء حين أمرا بالانهباط عن الجبائي وهو الظاهر. وقيل: معناه أنه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء عن الحسن. وقيل: لأَن البركات ينسب إلى أنها تأتي من السماء كقولـه
{ { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [الحديد: 25] عن علي بن عيسى. وقيل: معنى أنزلنا عليكم أعطيناكم ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه ليس أن هناك علواً وسفلاً ولكنه يجري مجرى التعظيم كما يقال رفعت حاجتي إلى فلان ورفعت قضيتي إلى الأَمير عن أبي مسلم. وقيل: معناه خلقنا لكم كما قال { وأنزل لكم من الأَنعام ثمانية أزواج } [الزمر: 6] { وأنزلنا الحديد } عن أبي علي الفارسي { يواري سوآتكم } أي يستر عوراتكم { وريشاً } أي أثاثاً مما تحتاجون إليه. وقيل: مالاً عن ابن عباس ومجاهد والسدي. وقيل: جمالاً عن ابن زيد. وقيل: خصباً ومعاشاً عن الأَخفش. وقيل: خيراً وكل ما قاله المفسرون فإنه يدخل فيه إلا أن كلا منهم خص بعض الخير بالذكر.
{ ولباس التقوى } هو العمل الصالح عن ابن عباس. وقيل: هو الحياء الذي يكسيكم التقوى عن الحسن. وقيل: هو ثياب النسك والتواضع إذا اقتصر عليه كلباس الصوف والخشن من الثياب عن الجبائي. وقيل: هو لباس الحرب والدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو عن زيد بن علي بن الحسين (ع) وأبي مسلم. وقيل: هو خشية الله تعالى عن عروة بن الزبير. وقيل: هو ستر العورة يتقي الله فيواري عورته عن ابن زيد. وقيل: هو الإِيمان عن قتادة والسدي، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع.
{ ذلك خير } أي لباس التقوى خير من جميع ما يلبس { ذلك من آيات الله } أي ذلك الذي خلقه الله وأنزله من حجج الله التي تدل على توحيده { لعلهم يذكرون } معناه لكي يتفكرون فيها فيؤمنوا بالله ويصيروا إلى طاعته وينتهوا عن معاصيه.
ثم خاطبهم سبحانه مرة أخرى فقال { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } أي لا يضلنكم عن الدين ولا يصرفنكم عن الحق بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها النفوس وإنما صح أن ينهى الإِنسان بصيغة النهي للشيطان لأَنه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنه يطلبنا بالمكروه ويقصدنا بالعداوة فالنهي له يدخل فيه النهي لنا عن ترك التحذير منه.
{ كما أخرج أبويكم من الجنة } نسب الإِخراج إليه لما كان بإغوائه وإن كان خروجهما بأمر الله تعالى وجرى ذلك مجرى ذمه لفرعون بأنه يذبح أبناءهم وإنما أمر بذلك وتحقيق الذم فيها راجع إلى فعل المذموم ولكنه يذكر بهذه الصفة لبيان منزلة فعله في عظم الفاحشة { ينزع عنهما } عند وسوسته ودعائه لهما { لباسهما } من ثياب الجنة. وقيل: كان لباسهما الظفر عن ابن عباس أي كان شبه الظفر وعلى خلقته. وقيل: كان لباسهما نوراً عن وهب بن منبه { ليريهما سوآتهما } عوراتهما.
{ إنه } يعني الشيطان { يراكم هو وقبيله } أي نسله عن الحسن وابن زيد يدل عليه قولـه { افتتخذونه وذريته أولياء من دوني }. وقيل: جنوده وأتباعه من الجن والشياطين { من حيث لا ترونهم } قال ابن عباس: إن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم وصدور بني آدم مساكن لهم كما قال
{ { الذي يوسوس في صدور الناس } [الناس: 5] فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم قال قتادة: والله أن عدواً يراك من حيث لا تراه لشديد المؤنة إلا من عصم الله وإنما قال ذلك لأَنا إذا كنا لا نراهم لم نعرف قصدهم لنا بالكيد والإِغواء فينبغي أن نكون على حذر فيما نجده في أنفسنا من الوساوس خيفة أن يكون ذلك من الشيطان وإنما لا يراهم البشر لأَن أجسامهم شفافة لطيفة تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع.
وقال أبو الهذيل وأبو بكر بن الإِخشيد: يجوز أن يمكنهم الله تعالى فينكشفوا فيراهم حينئذ من يحضرهم وإليه ذهب علي بن عيسى وقال: إنهم مُمكّنّون من ذلك وهو الذي نصره الشيخ المفيد أبو عبد اللهرحمه الله قال الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه وهو الأَقوى عندي وقال الجبائي: لا يجوز أن يرى الشياطين والجن لأَن الله عز اسمه قال لا ترونهم وإنما يجوز أن يروا في زمن الأَنبياء بأن يكشف الله أجسادهم على الأَنبياء كما يجوز أن يرى الناس الملائكة في زمن الأَنبياء.
{ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } أي حكمنا بذلك لأَنهم يتناصرون على الباطل كما قال
{ { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } [الزخرف: 19] أي حكموا بذلك حكماً باطلاً وإنما خص الذين لا يؤمنون تنبيهاً على أنهم مع اجتهادهم لا يتمكنون من خيار المؤمنين المتيقظين منهم وإنما يتمكنون من الكفرة والجهال والفسقة الأَغفال.
{ وإذا فعلوا فاحشة } كنى به عن المشركين الذين كانوا يبدون سوآتهم في طوافهم فكان يطوف الرجال والنساء عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب وهم الحُمْس قال الفراء: كانوا يعملون شيئاً من سيور مقطعة يشدّونهم على حقويهم يسمى حوفاً وإن عمل من صوف يسمى رهطاً وكانت تضع المرأة على قبلها النسعة فتقول:

الْيَوَم يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كلُّهُ وَما بَدا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ

يعني الفرج لأَن ذلك يستر ستراً تاماً وفي الآية حذف تقديره وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها { قالوا وجدنا عليها آباءنا } قيل ومن أين أخذها آباؤكم قالوا { والله أمرنا بها } أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم إذا فعلوا ما يعظم قبحه اعتذروا لنفوسهم إنا وجدنا آباءنا يفعلونها وإن آباءهم فعلوا ذلك من قبل الله وقال الحسن: إنهم كانوا أهل إجبار فقالوا لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه فلهذا قالوا والله أمرنا بها فردَّ الله سبحانه عليهم قولـهم بأن قال { إن الله لا يأمر بالفحشاء } ثم أنكر عليهم من وجه آخر فقال { أتقولون على الله ما لا تعلمون } لأَنهم إن قالوا لا لنقضوا مذهبهم وإن قالوا نعم افتضحوا في قولـهم قال الزجاج: أتقولون على الله معناه أتكذبون عليه.