التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨٥
وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨٦
وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٧
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الإِيفاء إتمام الشيء إلى حد الحق فيه ومنه إيفاء العهد وهو إتمامه بالعمل به والكيل تقدير الشيء بالمكيال حتى يظهر مقداره منه والوزن تقديره بالميزان والمساحة تقديره بالذراع أو ما زاد عليه أو نقص والبخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق والإِفساد إخراج الشيء إلى حد لا ينتفع به بدلاً من حال ينتفع بها وضده الإِصلاح والصدّ الصرف عن الفعل بالإِغواء فيه كما يصد الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة يقال صدّه عن الأَمر يصدّه أي منعه العوج بكسر العين في الدين وكل ما لا يرى والعوج بفتح العين في العود وكل ما يرى كالحائط وغيره والطائفة الجماعة من الناس وهو من الطوف مأخوذة من أنها تجتمع على الطواف.
الإِعراب: مدين اسم المدينة أو القبيلة لا ينصرف للتعريف والتأنيث وجائز أن يكون أعجمياً عن الزجاج بكل صراط بمعنى على كل صراط ويجوز تعاقب الحروف الثلاثة هنا الباء وعلى وفي تقول لا تقعد بكل صراط وعلى كل صراط وفي كل صراط لأَنه اجتمع معاني الأَحرف الثلاثة فيه فإن الباء للإِلصاق وهو قد لاصق المكان وعلى للاستعلاء وهو قد علا المكان وفي للمحل وقد حلّ المكان ومن آمن في موضع نصب بأنه مفعول به أي وتصدون المؤمنين بالله وإنما قال فاصبروا فجعل الصبر جزاء وهو لازم على كل حال لأَن المعنى فسيقع جزاء كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب كأنه قال فأنتم مصبوون على حكم الله بذلك.
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من القصص قصة شعيب فقال { وإلى مدين } أي وأرسلنا إلى مدين { أخاهم شعيباً }. وقيل: إن مدين ابن إبراهيم الخليل فنسبت القبيلة إليه قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم وقال قتادة: هو شعيب بن بويب قال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكيل بن يشحب بن مدين بن إبراهيم وأم ميكيل بنت لوط وكان يقال له خطيب الأَنبياء لحسن مراجعته قومه وهم أصحاب الأَيكة وقال قتادة: أرسل شعيب مرتين إلى مدين مرة وإلى أصحاب الأَيكة مرة.
{ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } قد مر تفسيره { فأوفوا الكيل والميزان } أي أتموا ما تكيلونه على الناس بالمكيال وما تزنونه عليهم بالميزان ومعناه أدّوا حقوق الناس على التمام في المعاملات { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } أي لا تنقصوهم حقوقهم وقال قتادة والسدي: البخس الظلم ومنه المثل تحسبها حمقاء وهي باخس.
{ ولا تفسدوا في الأَرض بعد إصلاحها } يعني لا تعملوا في الأَرض بالمعاصي واستحلال المحارم بعد إن أصلحها الله بالأَمر والنهي وبعثه الأَنبياء وتعريف الخلق مصالحهم. وقيل: لا تفسدوا بأن لا تؤمنوا فيهلك الله الحرث والنسل { ذلكم } الذي أمرتكم به { خير لكم } وأعوَد عليكم { إن كنتم مؤمنين } أي مصدقين بالله.
وإنما علق خيريته بالإِيمان وإن كان هو خيراً علي كل حال من حيث إن من لا يكون مؤمناً بالله وعارفاً بِنَبيِّه لم يمكنه أن يعلم أن ذلك خير له فكأنه قال لهم كونوا مؤمنين لتعلموا أن ذلك خير لكم ويمكن أن يكون المراد لا ينفعكم إيفاء الكيل والوزن إلا بعد أن تكونوا مؤمنين وقال الفراء: لم يكن لشعيب معجزة على نبوته لأَن الله تعالى لم يذكر له دلالة في القرآن وهو غلط لأَنه لا يجوز أن يخلي الله تعالى نبيّاً عن معجزة هذا وقد قال سبحانه { قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا } فجاء بالفاء جواباً للجزاء ويجوز أن يكون له معجزات وإن لم تذكر في القرآن كما أن أكثر آيات نبينا صلى الله عليه وسلم ومعجزاته غير مذكورة في القرآن ولم يوجب ذلك نفيها.
{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } قيل في معناه أقوال:
أحدها: أنهم كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيباً للإِيمان به فيخوّفونه بالقتل عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد.
وثانيها: أنهم كانوا يقطعون الطريق فنهاهم عن أبي هريرة وعبد الرحمن بن زيد ويمكن أن يكونا أرادا به أنهم كانوا يقطعون الطريق على الناس عن قصد شعيب فيرجع إلى معنى القول الأَول.
وثالثها: أن المراد لا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين فتطلبونه له العوج بإيراد الشبه وتقولون لشعيب: إنه كذاب فلا يفتننكم عن الدين وتتوعدونه.
{ وتصدون عن سبيل الله من آمن به } أي تمنعون عن دين الله من أراد أن يؤمن به من الناس { وتبغونها عوجاً } الهاء راجعة إلى السبيل أي تبغون السبيل عوجاً عن الحق وهو أن تقولوا هذا كذب وهذا باطل وما أشبه ذلك عن قتادة. وقيل: معناه تلتمسون لها الزيغ عن مجاهد. وقيل: معناه لا تستقيمون على طريق الهدى عن الحسن. وقيل: تريدون الاعوجاج والعدول عن القصد عن الزجاج.
{ واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم } أي كثر عددهم قال ابن عباس: وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت حتى كثر أولادها قال الزجاج: وجائز أن يكون كثركم جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وإقدار فكثرهم وجائز أن يكون عددهم قليلاً فكثرهم { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } يعني فَكِّروا في عواقب أمر عاد وثمود ولوط وإنزال العقاب بهم واستئصال شأفتهم وما حَلَّ بهم من البوار.
{ وإن كان طائفة } أي جماعة { منكم آمنوا بالذي أرسلت به } أي صدقوني في رسالتي وقبلوا قولي { وطائفة لم يؤمنوا } لم يصدقوني { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا } خاطب الطائفتين ومعناه لا يغرنكم تفرق الناس عني فإن جميل العاقبة لي وسيجزي الله كل واحد من الفريقين بما يستحقه على عمله في الدنيا أو الآخرة دون الدنيا { وهو خير الحاكمين } لأَنه لا يجوز عليه الجور ولا المحاباة في الحكم وهذا وعيد لهم قال البلخي: أمرهم في هذه الآية بالكف عما كانوا يفعلون من الصد عن الدين والإِبعاد عليه والكف عنه خير ورشد ولم يأمرهم بالمقام على الكفر وفي ذلك دلالة على أنه ليس كل أفعال الكفار كفر ومعصية كما يذهب إليه بعض أهل النظر.