التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٣١
وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٢
وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
٣٣
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٤
-الأنفال

مجمع البيان في تفسير القرآن

الإعراب: هو الحق هو فصل لا محل له من الإعراب ويسميه الكوفيون عماداً والحق منصوب بأنه خبر كان ويجوز فيه الرفع ولكن لم يقرأ به واللام في قولـه ليعذبهم لام الجحد وأصلها لام الإضافة وإنما دخلت في النفي ولم تدخل في الإيجاب لتعلق الخبر بحرف النفي كما دخلت الباء في خبر ما ولم تدخل في الإيجاب وموضع أن من قولـه أن لا يعذبهم الله نصب لأن تقديره وما لهم في أن لا يعذبهم الله أي شيء لهم في ذلك لكن لما حذف الجار عمل معنى الفعل الذي هو الاستقرار ونحوه وإنما جاز الحذف مع إن ولم يجز مع المصدر لطول الكلام بالصلة اللازمة من الفعل والفاعل وليس كذلك المصدر.
المعنى: ثم أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفار ومباهتتهم للحق فقال { وإذا تتلى عليهم آياتنا } من القرآن { قالوا قد سمعنا } أي أدركنا بأذاننا فإن السماع إدراك الصوت بحاسة الأُذن { لو نشاء لقلنا مثل هذا } إنما قالوا ذلك مع ظهور عجزهم عن الإِتيان بسورة مثله بعد التحدي عداوة وعناداً وقد تحمل الإِنسان شدة العداوة على أن يقول ما لا يعلم. وقيل: إنما قالوا ذلك لأَنه لم ينقطع طمعهم من القدرة عليه في المستقبل إذ القرآن كان مركباً من كلمات جارية على ألسنتهم فطمعوا أن يأتي لهم في ذلك المستقبل بخلاف صيرورة العصا حيةً في أنه قد انقطع طمعهم عن الإِتيان بمثله إذ جنس ذلك لم يكن في مقدورهم.
{ إن هذا إلا أساطير الأولين } معناه ما هذه إلا أحاديث الأَولين تتلوها علينا وكان قائل هذا النضر بن الحارث بن كلدة وأسر يوم بدر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقبة بن أبي معيط قال يا عليّ عليَّ بالنضر أبغيه فأخذ عليٌّ بشعره وكان رجلاً جميلاً له شعر فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أسألك بالرحم بيني وبينك ألا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني وإن فاديتهم فاديتني فقال صلى الله عليه وسلم
"لا رحم بيني وبينك قطع الله الرحم بالإِسلام قَدّمه يا علي فاضرب عنقه فضرب عنقه ثم قال يا علي عليَّ بعقبة فأحضر فقال يا محمد ألم تقل لا تصبر قريش أي لا يقتلون صبراً فقال صلى الله عليه وسلم: وأنت من قريش إنما أنت علج من أهل صفورية والله لأَنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له قال فمن للصبية؟ قال صلى الله عليه وسلم: النار ثم قال: حنَّ قدح ليس منها" قال سعيد بن جبير: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة نفر من قريش صبراً المطعم بن عدي والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط.
{ وإذ قالوا } أي واذكر يا محمد إذ قالوا أي قال هؤلاء الكفار { اللهم إن كان هذا } الذي جاء به محمد { هو الحق من عندك } دون ما نحن عليه { فأمطر علينا حجارة من السماء } كما أمطرته على قوم لوط { أو ائتنا بعذاب أليم } أي شديد مؤلم والقائل لذلك النضر بن الحارث أيضاً عن سعيد بن جبير ومجاهد وروي في الصحيحين أن هذا من قول أبي جهل ويسأل ها هنا فيقال لم طلبوا العذاب في الله بالحق وإنما يطلب الخير والثواب والأَجر والجواب أنهم كانوا يعتقدون أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحق من الله وإذا لم يكن حقاً لم يصبهم شيء ويقال لم قال أمطر من السماء والإِمطار لا يكون إلا من السماء وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنه يجوز أن يكون إمطار الحجارة من مكان عال غير السماء.
والثاني: أنه على طريق البيان بمن.
ثم قال سبحانه { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } ذكر سبحانه سبب إمهالهم ومعناه وما كان الله يعذب أهل مكة بعذاب الاستئصال وأنت مقيم بين أظهرهم لفضلك وحرمتك يا محمد فإن الله تعالى بعثك رحمة للعالمين فلا يعذبهم إلا بعد أن يفعلوا ما يستحقون به سلب النعمة بإخراجك عنهم قال ابن عباس: إن الله سبحانه لم يعذب قومه حتى أخرجوه منها { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } معناه وما كان الله يعذبهم وفيهم بقية من المؤمنين بعد خروجك من مكة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة بقيت فيها بقية من المؤمنين لم يهاجروا بعذر وكانوا على عزم الهجرة فرفع الله العذاب عن مشركي مكة لحرمة استغفارهم فلما خرجوا أذن الله في فتح مكة عن ابن عباس وعطية والضحاك واختاره الجبائي.
وقيل: معناه وما يعذبهم الله بعذاب الاستئصال في الدنيا وهم يقولون غفرانك ربنا وإنما يعذبهم على شركهم في الآخرة عن ابن عباس في رواية أخرى ويزيد بن رومان وأبي موسى ومحمد بن مبشر وفي تفسير علي بن إبراهيم لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش:
"إني أقتل جميع ملوك الدنيا وأجري الملك إليكم فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكون بها العرب وتدين لكم العجم" فقال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق الآية حسداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال غفرانك اللهم ربنا فأنزل الله { وما كان الله ليعذبهم } الآية ولما هموا بقتل رسول الله وأخرجوه من مكة أنزل الله سبحانه { وما لهم ألاّ يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } الآية فعذبهم الله بالسيف يوم بدر وقتلوا. وقيل: معناه أنهم لو استغفروا لم يعذبوا وفي ذلك استدعاء إلى الاستغفار عن ابن عباس في رواية أخرى والسدي وقتادة وابن زيد قال مجاهد وفي أصلابهم من يستغفر وقال عكرمة وهم يسلمون فأراد بالاستغفار الإسلام وقد روي عن أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال كان في الأرض أمانان من عذاب الله وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به وقرأ هذه الآية وروي ذلك عن قتادة أيضاً.
{ وما لهم ألا يعذبهم الله } معناه ولم لا يعذبهم الله وأي أمر يوجب ترك تعذيبهم { وهم يصدون عن المسجد الحرام } أي يمنعون عن المسجد الحرام أولياءه فحذف لأَن ما بعده يدل عليه { وما كانوا أولياءه } أي وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام وإن سعوا في عمارته.
{ إن أولياؤه إلاّ المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } معناه وما أولياء المسجد الحرام إلا المتقون عن الحسن وهو المروي عن أبي جعفر (ع). وقيل: معناه وما كانوا أولياء الله إن أولياء الله إلا المتقون الذين يتركون معاصي الله ويجتنبونها والأَول أحسن ويسأل فيقال: كيف يجمع بين الآيتين وفي الأُولى نفي تعذيبهم وفي الثانية إثبات ذلك وجوابه على ثلالة أوجه:
أحدها: أن المراد بالأَول عذاب الاصطلام والاستئصال كما فعل بالأُمم الماضية وبالثاني عذاب القتل بالسيف والأَسر وغير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم.
والآخر: أنه أراد وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة ويريد بالأَول عذاب الدنيا عن الجبائي.
والثالث: أن الأَول استدعاه للاستغفار يريد أنه لا يعذبهم دنيا ولا آخرة إذا استغفروا وتابوا فإذا لم يفعلوا عذبوا ثم بيّن أن استحقاقهم العذاب بصدهم الناس عن المسجد الحرام.