التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١١٧
وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١١٨
-التوبة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة وحفص عن عاصم { يزيغ } بالياء وهي قراءة الأعمش والباقون تزيغ بالتاء والقراءة المشهورة الذين خلفوا وقرأ علي بن الحسين زين العابدين (ع) وأبو جعفر محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهم السلام وأبو عبد الرحمن السلمي خالفوا وقرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد خلفوا بفتح الخاء واللام خفيفة.
الحجة: قال أبو علي: يجوز أن يكون فاعل كاد أحد ثلاثة أشياء الأول: أن تضمر فيها القصة والحديث ويكون تزيغ الخبر وجاز ذلك فيها وإن كان الأصل في إضمار القصة إنما هو في الابتداء لأن الخبر لازم لكاد فأَشبه العوامل الداخلة على الابتداء للزوم الخبر له قال ولا يجوز ذلك في عسى لأن عسى قد يكون فاعله المفرد في كثير من الأمر فلا يلزمه الخبر كقوله
{ { عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبُّوا شيئاً وهو شرُّ لكم } [البقرة: 216] فإذا كان كذلك لم يحتمل الضمير الذي يحتمله كاد كما لم يحتمله سائر الأفعال التي تسند إلى فاعليها مما لا يدخل على المبتدأ والثاني: أن يضمر في كاد ذكر مما تقدَّم لما كان النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار قبيلاً واحداً وفريقاً واحداً جاز أن يضمر في كاد ما دلَّ عليه ما تقدَّم ذكره من القبيل والحزب والفريق ونحو ذلك من الأسماء المفردة الدالة على الجمع وقال منهم فحمله على المعنى مثل قوله { آمن بالله واليوم الآخر } ثم قال { { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [الأحقاف: 13] فكذلك فاعل كاد على هذا الوجه الثالث: أن يكون فاعل كاد القلوب وتقديره من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ ولكنه قد تزيغ كما تقدم خبر كان وجاز تقديمه وإن كان فيه ذكر من القلوب ولم يمتنع من حيث يمتنع الإضمار قبل الذكر لما كان النية به التأخير كما لم يمتنع ضرب غلامه زيد لما كان التقدير به التأخير فأما من قرأ يزيغ بالياء فيجوز أن يكون قد ذهب إلى أن في كاد ضمير الحديث فيرتفع قلوب بيزيغ فذكر وإن كان فاعله مؤنثاً لتقدم الفعل، ومن قرأ تزيغ بالتاء جاز أن يكون ذهب إلى أن القلوب مرتفعة بكاد وجاز أن يكون الفعل المسند إلى القصة أو الحديث يؤنث إذا كان في الجملة التي يفسرها مؤنث كقولـه { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } [الأنبياء: 97] وجاز تأنيث هي التي هي ضمير القصة لذكر الأبصار المؤنثة في الجملة التي هي التفسير فكذلك يؤنث الذي في كاد لذكر المؤنث في الجملة المفسرة فتقول: كادت وتدغم التاء التي هي علامة التأنيث في تاء تزيغ وتزيغ على هذا للقلوب وهي مرتفعة به ويجوز إلحاق التاء بكاد من وجه آخر وهي أن ترفع قلوب فريق بكاد فتلحقه علامة التأنيث من حيث كان مسنداً إلى مؤنث ومن قرأ خلفوا فتأويله أقاموا ولم يبرحوا ومن قرأ خالفوا فمعناه عائد إلى ذلك لأنهم إذا خالفوهم فأقاموا فقد خلفوا هناك.
اللغة: الزيغ ميل القلب عن الحق ومنه قوله
{ { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [الصف: 5] وزاغت الشمس إذا مالت وزاغ عن الطريق جاز وعدل والتخليف تأخير الشيء عمن مضى فأما تأخير الشيء عنك في المكان فليس بتخليف وهو من الخلف الذي هو مقابل لجهة الوجه يقال خلفه أي جعله خلفه فهو مخلف ورحبت البلاد إذا اتسعت والرحب السعة ومنه مرحباً أي رحبت بلادك وأهلت والضيق ضد السعة والظن هنا بمعنى اليقين كما في قول دريد بن الصمة:

فقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّج سَراتُهُم في الفارِسيّ المُسَرَّدِ

النزول: نزلت الآية الأولى في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتى همَّ قوم بالرجوع ثم تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم الشعير المسوس والتمر المدود والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة.
قالوا:
"وكان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة تخلَّف إلى أن مضى من مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ثم دخل يوماً على امرأتين له في يوم حار في عريشين لهما قد رتبتاهما وبردتا الماء وهيأتا له الطعام فقام على العريشين وقال سبحان الله رسول الله قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر في الفتح والريح والحرّ والقرّ يحمل سلاحه على عاتقه وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيىء وامرأتين حسناوين ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أكلم واحدة منكما كلمة ولا أدخل عريشاً حتى ألحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأناخ ناضحه واشتدَّ عليه وتزود وارتحل وامرأتاه تكلمانه ولا يكلمهما ثم سار حتى إذا دنا من تبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة أولى لك فلما دنا قال الناس هذا أبو خيثمة يا رسول الله فأناخ راحلته وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ع): أولى لك فحدّثه الحديث فقال له خيراً ودعا له وهو الذي زاغ قلبه للمقام ثم ثبته الله" .
وأما الآية الثانية فإنها نزلت في شأن كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثم ندموا فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتى الصبيان وجاءت نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن له يا رسول الله نعتزلهم فقال: "لا ولكن لا يقربوكنَّ" فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلمنا أحد منهم فهلاَّ نتهاجر نحن أيضاً فتفرقوا ولم يتجمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.
المعنى: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } أقسم الله تعالى في هذه الآيه لأن لام لقد لام القسم بأنه سبحانه قبل توبتهم وطاعاتهم وإنما ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم مفتاحاً للكلام وتحسيناً له ولأنه سبب توبتهم وإلا فلم يكن منه ما يوجب التوبة وقد روي عن الرضا علي بن موسى عليه السلام أنه قرأ لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار { الذين اتبعوه } في الخروج معه إلى تبوك { في ساعة العسرة } وهي صعوبة الأمر قال جابر: يعني عسرة الزاد وعسرة الظهر وعسرة الماء والمراد بساعة العسرة وقت العسرة لأن الساعة تقع على كل زمان وقال عمر بن الخطاب: أصابنا حرّ شديد وعطش فأمطر الله سبحانه السماء بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فعشنا بذلك.
{ من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } عن الجهاد فهمُّوا بالانصراف من غزاتهم من غير أمر فعصمهم الله تعالى من ذلك حتى مضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم { ثم تاب عليهم } من بعد ذلك الزيغ ولم يرد بالزيغ ها هنا الزيغ عن الإيمان { إنه بهم رؤوف } رحيم تداركهم برحمته والرأفة أعظم من الرحمة { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } قال مجاهد: معناه خلفوا عن قبول التوبة بعد قبول توبة من قبل توبتهم من المنافقين كما قال سبحانه فيما مضى
{ { وآخرون مرجون لأمر الله } [التوبة: 106] إما يعذّبهم وإما يتوب عليهم وقال الحسن وقتادة معناه خلّفوا عن غزوة تبوك لما تخلفوا هم وأما قراءة أهل البيت عليهم السلام خالفوا فإنهم قالوا لو كانوا خلفوا لما توجه عليهم العتب ولكنهم خالفوا.
{ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي برحبها وما ها هنا مصدرية ومعناه ضاقت عليهم الأرض مع اتساعها وهذه صفة من بلغ غاية الندم حتى كأنه لا يجد لنفسه مذهباً وذلك بأن النبي أمر الناس بأن لا يجالسوهم ولا يكلموهم كما مر ذكره لأنه كان نزلت توبة الناس ولم تنزل توبتهم ولم يكن ذلك على معنى ردّ توبتهم لأنهم كانوا مأمورين بالتوبة ولا يجوز في الحكمة رد توبة من يتوب في وقت التوبة ولكن الله سبحانه أراد بذلك تشديد المحنة عليهم في تأخير إنزال توبتهم وأراد بذلك استصلاحهم واستصلاح غيرهم لئلا يعودو إلى مثله.
{ وضاقت عليهم أنفسهم } هذه عبارة عن المبالغة في الغم حتى كأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعاً يخفونها فيه. وقيل: معنى ضيق أنفسهم ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } أي وأيقنوا أنه لا يعصمهم من الله موضع يعتصمون به ويلجأون إليه غيره تعالى ومعناه علموا أنه لا معتصم من الله إلا به وأن لا ينجيهم من عذاب الله إلا التوبة { ثم تاب عليهم ليتوبوا } أي ثم سهَّل الله عليهم التوبة حتى تابوا. وقيل: ليتوبوا أي ليعودوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية. وقيل: معناه ثم تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله سبحانه قابل التوبة قال الحسن: أما والله ما سفكوا من دم ولا أخذوا من مال ولا قطعوا من رحم ولكن المسلمين تسارعوا في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف هؤلاء وكان أحدهم تخلف بسبب ضيعة له والآخر لأهل والآخر طلباً للراحة ثم ندموا وتابوا فقبل الله توبتهم { إن الله هو التواب } أي الكثير القبول للتوبة { الرحيم } بعباده.
النظم: اتصلت الآية الأولى بقوله { التائبون } الآية اثنى الله سبحانه عليهم هناك وبيَّن في هذه الآية قبول توبتهم ورضاه عنهم باتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة عن أبي مسلم. وقيل: إنه سبحانه لما ذكر أن له ملك السماوات والأرض ولا ناصر لأحد دونه بيَّن عقيبه رحمته بالمؤمنين ورأفته بهم في قبول توبتهم.