التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
٣
-الفاتحة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة ـ
قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب: مالك بالألف. الباقون ملك بغير الف؛ ولم يمل أحد الف مالك، وكسر جميعهم الكاف. وروي عن الأعمش، انه فتحها على النداء، وربيعة بن نزار يخففون مالك ويسقطون الألف، فيقولون: ملك بتسكين اللام وفتح الميم كما قال ابو النجم.
تمشي الملك عليه حلله.
والألف ساقط في الخط في القراءتين والمعول على الأولتين دون النصب وإسكان اللام ومعنى ملك يوم الدين باسقاط الألف أنه الملك يومئذ لا ملك غيره وأنه لا يؤتى في ذلك الوقت أحداً الملك كما اتاه في الدنيا، وقوى ذلك بقوله تعالى:
{ { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } وبانه يطابق ما تقدم من قوله: { رب العالمين الرحمن الرحيم }
ومن قرأ مالك بالف معناه انه مالك يوم الدين والحساب لا يملكه غيره ولا يليه سواه.
اللغة
والمالك هو القادر على التصرف في ماله، وأن يتصرف فيه على وجه ليس لأحدٍ منعه منه، ويوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم. والملك هو القادر الواسع القدرة الذي له السياسة والتدبير، ويقال ملك بيِّن الملك مضمومة الميم، ومالك بيِّن الملك والمِلك بفتح الميم وكسرها، وضم الميم فيه لغة شاذة ذكرها ابو علي الفارسي. ويقال طالت مملكة الأمير ومملَكته بكسر اللام وفتحها وطال مُلكه ومَلكه اذا طال رقه، واعطاني من ملكه وملكه، ولي في هذا الوادي ملك ومَلك ومِلك ويقال نحن عبيد مملكة وليس بعبيدقن اي سبياً لم يملك في الأصل، ويقال: شهدنا املاك فلان وملكه، ولا يقال ملاكه، فأصل الملك الشد من قول الشاعر:

ملكت بها كفي وانهرت فقعها

اي شددت. وملكت العجين اي شددت عجنه. ويقال: هذا ملك فلان اذا كان له التصرف فيه على ما بيناه. فأمّا من رجح قراءة ملك من حيث انه وصف نفسه بأنه ملك كل شيء بقوله: { رب العالمين } فلا فائدة في تكرير ما قد مضى فقد ابعد لأن في القرآن له نظائر تقدّمها العام وذكر بعد العام الخاص: { { اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق } فعمّ في الأول ثم خص ذكر الأنسان تنبيهاً على تأمل ما فيه من اتقان الصنعة ووجوه الحكمة، كما قال: { { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ولذلك نظائر كثيرة.
وفي الناس من قال ان ملك ابلغ في المدح من مالك. لأن ملك مالك وليس كل مالك ملكاً. وقال تغلب: إن مالك ابلغ من ملك لأنه قد يكون الملك على من لا يملك، كما يقال ملك الروم وان كان لا يملكهم ولا يكون مالكا إلا على ما يملك. وقال بعضهم: ان مالك أبلغ في المدح للخالق من ملك. وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، لأن مالك من المخلوقين قد يكون غير ملك. واذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا. والاقوى أن يكون مالك أبلغ في المدح فيه تعالى؛ لانه ينفرد بالملك ويملك جميع الاشياء فكان أبلغ.
وقوله تعالى: { يوم الدين }
الاعراب ـ مجرور بالاضافة قي القراءتين معاً، وهو من باب يا سارق الليلة أهل الدار. اتسع في الظرف فنصب. نصب المفعول به ثم اضيف على هذا الحد وليس ذلك مثل قوله: { وعنده علم الساعة } مفعول بها على الحقيقة، ولا أن جعل الظرف مفعولا على السعة، لأن الظرف اذا جعل مفعولا على السعة فمعناه معنى الظرف. ولو جعل ظرفاً لكان المعنى: يعلم في الساعة. وذلك لا يجوز لانه تعالى يعلم في كل وقت والمعنى: انه يعلم الساعة أي يعرفها. ومن نصب انما هرب ان يخرج من خطاب الغائب إلى المواجه في قوله { اياك نعبد واياك نستعين } وليس ذلك ببديع، لأنه مستعمل في القرآن وفى الشعر.
قال الله تعالى:
{ { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } فعدل عن خطاب المواجه إلى الكنانة عن الغائب. وقال الشاعر:

كذبتم وبيت الله لا تنكحونها بني شاب قرناها تصر وتحلب

وقال ابو كثير الهلالي:

يا لهف نفسي، كان جدة خالد وبياض وجهك للتراب الاعفر

وقال لبيد بن ربيعة:

قامت تشكي اليَّ النفس مجهشة وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا

فرجع الى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الاخبار عنها.
وقال الكسائي التقدير: قولوا اياك نعبد. فيكون على حكاية ما امروا به.
اللغة:
والدين الحساب، والدين الجزاء ايضاً. قال كعب بن جعيل:

اذا ما رمونا رميناهم ودناهم فوق ما يقرضونا

وقال آخر:

واعلم وايقن ان ملكك زائل واعلم بانك ما تدين تدان

يعني: ما تجزي تجزى. ومنه قوله تعالى: { كلا بل تكذبون بالدين } يعني بالجزاء. وقوله: { فلولا إن كنتم غير مدينين } أي غير مجزيين. وبهذا قال جماعة من التابعين كسعيد بن جبير وقتادة. وروي عن ابن عباس ومجاهد وابي جعفر: انه الحساب. والدين ايضاً الطاعة. وقال عمرو بن كلثوم:

وايام لنا غر طوال عصينا الملك فيها ان ندينا

والدين الملك قال زهير:

لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك

والدين القهر والاستعلاء قال الأعشى:

هو دان الرباب اذ كرهوا الدين دراكا بغزوة وصقال

يعني ذللهم للطاعة. والدين العادة قال المثقب العبدي:

تقول وقد درأت لها وضينى أهذا دينه ابداً وديني

التفسير
{ ويوم الدين } عبارة عن زمان الجزاء كله، وليس المراد به ما بين المشرق والمغرب وطلوع الشمس إلى غروبها