التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١١
-هود

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
اختلف القرّاء في قوله { وإن كلاً لما } على اربعة اوجه:
قرأ ابن كثير ونافع بتخفيف (إن) وتخفيف (لما) وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديدهما معاً. وقرأ أبو عمرو والكسائي بتشديد الأولى وتخفيف الثانية.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الاولى وتشديد الثانية.
اللغة والاعراب والمعنى:
وقيل في معنى (لمَّا) بالتشديد خمسة أوجه:
أوّلها - قول الفراء إنها بمعنى (لمن ما) فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت واحدة ثم ادغمت الاولى في الثانية، كما قال الشاعر:

وانّي لمّا أصدر الامر وجهه اذا هو أعيا بالسبيل مصادره

ثم تخفف، كما قرأ بعض القراء: { والبغي يعظكم } فحذف احدى اليائين ذكره الفراء.
والثاني - ما اختاره الزجاج: أن (لمّا) بمعنى (إلا) كقولهم سألتك لما فعلت، ومثله
{ إن كل نفس لما عليها حافظ } لأنه دخله معنى ما كلهم إلا لنوفينّهم. وقال الفراء هذا لا يجوز إلا في التمييز، لأنه لو جاز ذلك لجاز ان تقول جاءني القوم لمّا زيداً بمعنى الاّ زيداً، هذا لا يحوز بلا خلاف.
الثالث - اختاره المازني: أنَّها هي المخففة شددت للتأكيد. قال الزجاج: هذا لا يجوز، لانه انما يجوز تخفيف المشددة عند الضرورة، فأما تشديد المخففة، فلا يجوز بحال.
الرابع - حكاه الزجاج: إنها من لممت الشيء ألمه لمّاً إذا جمعته إلا أنها بنيت على (فعلى) فلم تصرف نحو (تترى) كأنه قال وإن كلا جميعاً ليوفينهم.
الخامس - قراءة الزهري (لما) بالتنوين بمعنى شديداً، كقوله
{ وتأكلون التراث أكلاً لما } }. واللام في قوله (لما) يحتمل أن تكون لام القسم دخلت على (ما) التي للتوكيد، ويحتمل أن تكون لام الابتداء دخلت على (ما) بمعنى الذي، كقوله { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } ومثله { وإن منكم لمن ليبطئن } قال الشاعر:

فلو ان قومي لم يكونوا أعزة لبعد لقد لاقيت لا بد مصرعا

وحكي عن العرب اني لبحمد الله لصالح قال أبو علي من قرأ بتشديد (إن) وتخفيف (لما) فوجهه بين، وهو انه نصب (كلا) بـ (إن) و (إن) تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام، فدخلت هذه اللام وهي لام الابتداء على الخبر في قوله { وإن كلاً لما } وقد دخلت الخبر لام اخرى وهي التي يتلقى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل ويلزمها في اكثر الامر النونين، فلما اجتمعت اللامان واتفقا في تلقى القسم، واتفقا في اللفظ فصل بينهما، كما فصل بين (إن) واللام، فدخلت (ما) لهذا المعنى، وان كانت زائدة للفصل، كما جاءت النون - وإن كانت زائدة - في قوله { فإما ترين من البشر } وكما صارت عوضاً من الفعل في قولهم: أما لي، فهذا بين، ويلي هذا الوجه في البيان قول من خفف (ان) ونصب (كلا) وخففت (لما)، كما قال الشاعر:

كأن ثدييه حقان

وأراد (كأن) المشددة، فخفف، واعمل، لان سيبويه حكى عمن يثق به أنه سمع من العرب من يقول: ان عمراً لمنطلق، قال وأهل المدينة يقرؤن { وإن كلاً لما جميع لدينا محضرون } يخفون وينصبون، ووجه النصب بها مع التخفيف ان (ان) مشبهة في نصبها بالفعل، والفعل يعمل محذوفاً كما يعمل غير محذوف في نحو (لم يك زيد منطلقاً، فلا تك منطلقاً) وكذلك { فلا تك في مرية } فاما من خفف (ان) ونصب (كلا) وشدد (لما) فقراءته مشكلة لأن (أن) اذا نصب بها وكانت مخففة كانت بمنزلة الثقيلة و (لما) اذا شددت كانت بمنزلة (إلا) فكذلك قراءة من شدد (لما) وثقل (ان) مشكلة، لانه كما لا يحسن أن تقول: ان زيد إلا منطلقاً فكذلك لا يحسن تثقيل (ان) وتخفيفها ويراد الثقيلة مع تثقيل (لما) فاما قولهم: نشدتك الله لما فعلت، والا فعلت، فقال الخليل: معناه لتفعلن، كما تقول: أقسمت عليه لتفعلن وإنما دخل (إلا ولما) لان المعنى الطلب، فكأنه قال: ما أسألك إلا فعل كذا، فلم يذكر حرف النفي في اللفظ، وإن كان مراداً، وليس في الآية معنى نفي ولا طلب، وضعف ابو علي. الوجه الذي حكيناه من ان اصله (لمن ما) فادغم النون في الميم بعد ما قلبت ميماً. قال: لان الحرف المدغم، إذا كان قبله ساكن نحو (يوم مالك) لم يقوّ الادغام فيه على أن يحرك الساكن الذي قبل الحرف المدغم، فاذا لم يجز ذلك فيه، وكان التغيير أسهل من الحذف، فانه لا يجوز الحذف الذي هو أجدر، في باب التغيير من تحريك الساكن على أنّ في هذه السورة ميمات أجتمعت في الادغام، أكثر مما اجتمعت في (لمن ما) ولم يحذف منها شيء نحو قوله { وعلى أمم ممن معك } ولم يحذف شيء منها فبأن لا يحذف - ها هنا - اجدر وحكي عن الكسائي أنه قال لا أعرف وجه التثقيل في (لما) قال ابو علي: ولم يبعد في ذلك، قال أبو علي: ولو خففت مخفف (ان) ورفع (كلا) وثقل (لما) ويكون المعنى ما كل الا ليوفينهم، كما قال { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } لكان ذلك أبين من النصب في (كل) وتثقيل (لما) و (كل) في الآية معرفة، والمعنى وإن كل المكلفين ليوفينهم ربك أعمالهم أو كل المختلفين على ما تقدم ذكره كما يقولون: مررت بكل قائماً، والتوفية بلوغ المقدار من غير نقصان، والتوفية مساواة المقدار في معناه، لأنه اذا ساواه في جنسه لم يجب به توفية.
المعنى
أخبر الله تعالى في هذه الآية انه يوفي جميع المكلفين ما يستحقونه على اعمالهم من الثواب والعقاب، لانه عالم بما فعلوه خبير به، لا يخفى عليه شيء من ذلك ومن ليس بعالم لا يمكنه ذلك، لانه يجوز ان يكون قد خفي عليه كثير منه، وهو تعالى لا يخفى عليه خافية.