التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
-يوسف

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ اهل الكوفة، ونافع { المخلصين } بفتح اللام. الباقون بكسرها. قال أبو علي حجة من كسر اللام قوله { أخلصوا دينهم } ومن فتح اللام، فيكون بنى الفعل للمفعول به، ويكون معناه ومعنى من كسر اللام واحد، فاذا أَخلصوا هم دينهم فهم مخلصون، واذا أُخلصوا فهم مخلصون.
ومعنى (الهمّ) في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله
{ إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } أي أرادوا ذلك وعزموا عليه. ومثله قول الشاعر:

هممت ولم افعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله

وقال حاتم طي:

ولله صعلوك تساور همه ويمضي على الأيام والدهر مقدما

ومنها: خطور الشيء بالبال، وان لم يعزم عليه. كقوله { اذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما } والمعنى ان الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ها هنا عزماً لما كان الله وليهما، لأنه قال { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال او متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله } وارادة المعصية والعزم عليها معصية بلا خلاف، وقال قوم: العزم على الكبير كبير، وعلى الكفر كفر، ولا يجوز أن يكون الله وليّ من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوى ذلك ما قال كعب ابن زهير:

فكم فيهم من سيد متوسع ومن فاعل للخير إن هم أو عزم

ففرق بين الهم والعزم وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى، ومنها المقاربة يقولون: هم بكذا، وكذا أي كاد يفعله قال ذو الرّمة:

أقول لمسعود بجرعاء مالك وقد هم دمعي ان تسيح اوائله

والدمع لا يجوز عليه العزم، وانما أراد كاد، وقارب، وقال ابو الاسود الدؤلي:

وكنت متى تهمم يمينك مرة لتفعل خيراً يعتقبها شمالكا

وعلى هذا قوله تعالى { جداراً يريد ان ينقض } أي يكاد وقال الحارثي:

يريد الرمح صدر ابي براءٍ ويرغب عن دماء بني عقيل

ومنها الشهوة وميل الطباع، يقول القاتل فيما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه اليه هذا من همي، وهذا أهم الاشياء الي. وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن. وقال: اما همها وكان اخبث الهم، واما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، واذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (ع) العزم على القبيح واجزنا باقي الوجوه، لان كل واحد منها يليق بحال، ويمكن ان يحمل الهم في الآية على العزم، ويكون المعنى، وهم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل كنت هممت بفلان اي بأن اوقع به ضرباً او مكروهاً, وتكون الفائدة على هذا الوجه في قوله { لولا أن رأى برهان ربه } مع ان الدفع عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها، إنه لما هم بدفعها اراه الله برهاناً على انه ان اقدم على ما يهم به، اهلكه اهلها وقتلوه، وانها تدّعي عليه المراودة لها على القبيح وتقذفه بأنه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر تعالى انه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشا اللذين هما القتل والمكروه او ظن القبيح واعتقاده فيه.
فان قيل هذا يقتضي ان جواب { لولا } تقدمها في ترتيب الكلام، ويكون التقدير: لولا ان رأى برهان ربه لهمّ بضربها، وتقدم جواب { لولا } قبيح او يقتضي ان تكون { لولا } بغير جواب!.
قلنا: اما تقدم جواب { لولا } فجائز مستعمل وسنذكر ذلك فيما بعد، ولا نحتاج اليه في هذا الجواب، لان العزم على الضرب والهم به وقعا إِلا انه انصرف عنها بالبرهان الذي رآه، ويكون التقدير ولقد همت به، وهم بدفعها لولا ان رأى برهان ربه، لفعل ذلك، فالجواب المتعلق بـ { لولا } محذوف في الكلام، كما حذف في قوله
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم } معناه، ولولا فضل الله عليكم لهلكتم ومثله { كلا لو تعلمون علم اليقين } لم تنافسوا في الدنيا وتحرصوا على حطامها، وقال امرؤ القيس:

فلو انها نفس تموت سوّية ولكنها نفس تساقط انفسا

والمعنى فلو انها نفس تموت سوية لنقصت وفنيت، فحذف الجواب تعويلاً على ان الكلام يقتضيه، ولا بد لمن حمل الآية على انه هم بالفاحشة ان يقدر الجواب، لان التقدير، ولقد همت بالزنا وهم بمثله، و { لولا أن رأى برهان ربه } لفعله. وانما حمل همّها على الفاحشة وهمّه على غير ذلك، لأن الدليل دل من جهة العقل والشرع على ان الانبياء، لا يجوز عليهم فعل القبائح، ولم يدل على انه لا يجوز عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح، قال الله تعالى { وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه }. وقوله حاكياً عنها { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإِنه لمن الصادقين } وقال { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } واجمعت الأمة من المفسرين واصحاب الاخبار على انها همت بالمعصية، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة ان يوسف لم يهم بالفاحشة. ولا عزم عليها منها قوله { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } وقوله { إنه من عبادنا المخلصين } ومن ارتكب الفاحشة لا يوصف بذلك وقوله { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } ولو كان الأمر على ما قاله الجهال من جلوسه مجلس الخائن وانتهائه الى حل السراويل، لكان خائناً، ولم يكن صرف عنه السوء والفحشاء. وقال ايضاً { ولقد راودته عن نفسه، فاستعصم } وفي موضع آخر حكاية عنها { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } وقوله حكاية عن العزيز حين رأى القميص قد من دبر { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } فنسب الكيد اليها دونه، وقوله ايضاً { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } فخصها بالخطاب وأمرها بالاستغفار دونه. وقوله { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } والاستجابة تقتضي براءة ساحته من كل سوء، ويدل على انه لو فعل ما ذكروه، لكان قد صبا ولم يصرف عنه كيدهن. وقوله { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } والعزم على المعصية من اكبر السوء. وقوله حاكياً عن الملك { ائتوني به استخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } ومن فعل ما قاله الجهال لا يقال له ذلك. ووجه آخر في الآية: إذا حمل الهم على ان المراد به العزم، وهو ان يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا ان رأى برهان ربه لهم بها ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت، لولا اني تداركتك، وقتلت لولا اني خلصتك، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت، وان لم يكن وقع هلاك ولا قتل قال الشاعر:

فلا يدعني قومي صريحاًً لحرة لئن كنتُ مقتولاً ويسلم عامر

وقال آخر:

فلا يدعني قومي صريحاً لحرَّة لئن لم أُعجل طعنة أو اعجل

فقدم جواب (لئن) في البيتين جميعاً. وقال قوم: لو جاز هذا لجاز أَن تقول: قام زيد لولا عمرو، وقصد زيد لولا بكر، وقد بينا ان ذلك غير مستبعد، وان القائل قد يقول: قد كنت قمت لولا كذا، وكذا، وقد كنت قصدتك لولا ان صدني فلان، وان لم يقع قيام ولا قصد. على ان في الكلام شرطاً، وهو قوله { لولا أن رأى برهان ربه } فكيف يحمل على الاطلاق.
والبرهان الذي رآه، روي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد: انه رأى صورة يعقوب عاضّاً على أنامله.
وقال قتادة: انه نودي يا يوسف أنت مكتوب في الانبياء وتعمل عمل السفهاء.
وروي في رواية أخرى عن ابن عباس: انه رأى الملك.
وهذا الذي ذكروه كلّه غير صحيح، لان ذلك يقتضي الالجاء وزوال التكليف، ولو كان ذلك لما استحق يوسف على امتناعه من الفاحشة مدحاً ولا ثواباً، وذلك ينافي ما وصفه الله تعالى. من انه صرف عنه السوء والفحشاء، وانه من عبادنا المخلصين.
ويحتمل ان يكون البرهان لطفاً لطف الله تعالى له في تلك الحال او قبلها، اختار عنده الامتناع من المعاصي، وهو الذي اقتضى كونه معصوماً ويجوز ان تكون الرؤية بمعنى العلم، وقال قوم: البرهان هو ما دل الله تعالى يوسف على تحريم ذلك الفعل، وعلى ان من فعله استحق العقاب، لان ذلك صارف عن الفعل ومقوِّي لدواعي الامتناع، وهذا ايضا جائز، وهو قول محمد بن كعب القرطي واختيار الجبائي.