التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً
٥٦
وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
٥٧
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً
٥٨
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً
٥٩
إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
٦٠
-مريم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

يقول الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) { اذكر في الكتاب } الذي هو القرآن { إدريس } واخبر انه كان كثير التصديق بالحق، وكان { نبياً } معظماً مبجلا مؤيداً بالمعجزات الباهرة. ثم أخبر تعالى أنه رفعه مكاناً علياً. قال انس بن مالك: رفعه الله الى السماء الرابعة. وروى ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وبه قال كعب ومجاهد: وابو سعيد الخدري. وقال ابن عباس والضحاك: رفعه الله الى السماء السادسة.
واصل الرفع جعل الشيء في جهة العلو، وهي نقيض السفل، يقال: رفعه يرفعه رفعاً، فهو رافع وذاك مرفوع. والعلي العظيم العلوّ والعالي العظيم فيما يقدر به على الأمور، فلذلك وصف تعالى بأنه علي. والفرق بين العليّ والرفيع أن العلي قد يكون بمعنى الاقتدار وعلو المكان. و (الرفيع) من رفع المكان لا غير. ولذلك لا يوصف تعالى بأنه رفيع. وقوله
{ { رفيع الدرجات } انما وصف الدرجات بأنها رفعية. وانما أخذ من علو معنى الصفة بالاقتدار، لأنها بمنزلة العالي المكان.
ثم اخبر تعالى عن الانبياء الذين تقدم وصفهم فقال { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين } فان حملنا (من) على التبعيض لم تدل على أن من عداهم لم ينعم عليهم، بل لا يمتنع أن يكون انما افردهم بأنه انعم عليهم نعمة مخصوصة عظيمة رفعية، وإن كان غيرهم ايضاً قد أنعم عليهم بنعمة دونها. وإن حملنا (من) على انها لتبيين الصفة لم يكن فيه شبهة، لأن معنى الآية يكون اولئك الذين أنعم الله عليهم من جملة النبيين.
وقوله { من ذرية آدم } [لان الله تعالى بعث رسلا ليسوا من ذرية آدم بل هم من الملائكة كما قال
{ { يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } وقوله { وممن حملنا } فى السفينة { مع نوح } أي ابوهم نوح وهو من ذرية آدم كما قال] { ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل } يعنى يعقوب { وممن هدينا } هم الى الطاعات فاهتدوا اليها واجتبيناهم اي اخترناهم واصطفيناهم { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن } اي أعلامه وادلته { خروا سجداً وبكياً } أي سجدوا له تعالى وبكوا، وبكى جمع باك ونصبهما على الحال، وتقديره: خروا ساجدين باكين. وبكي (فعول) ويجوز ان يكون جمع باك على (فعول). ويجوز ان يكون مصدراً بمعنى البكاء. قال الزجاج: لا يجوز النصب على المصدر، لانه عطف على قوله { سجداً }. وانما فرق ذكر نسبهم، وكلهم لآدم، ليبين مراتبهم فى شرف النسب، فكان لادريس شرف القرب من آدم، لأنه جدّ نوح. وكان ابراهيم من ذرية من حمل مع نوح، لأنه من ولد سام بن نوح. وكان اسماعيل واسحاق ويعقوب من ذرية ابراهيم، لما تباعدوا من آدم حصل لهم شرف ابراهيم، وكان موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من ذرية إسرائيل، لأن مريم من ذريته. وقيل انما وصف الله صفة هؤلاء الانبياء ليقتد بهم ويتبع اثارهم فى اعمال الخير
ثم اخبر تعالى انه خلف من بعد المذكورين خلف. والخلف - بفتح اللام - يستعمل في الصالحين، وبتسكين اللام في الطالح قال لبيد:

ذهب الذين يعاش فى اكنافهم وبقيت فى خلف كجلد الاجرب

وقال الفراء والزجاج: يستعمل كل واحد منهما في الآخر.
وفى الآية دلالة على أن المراد بالخلف من لم يكن صالحاً، لانه قال { أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } وقال القرطي: تركوها. وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز: أخروها عن مواقيتها. وهو الذي رواه أصحابنا. وقال قوم خلف - بفتح اللام - إذا خلف من كان من أهله - وبسكون اللام - إذا كان من غير أهله. ثم قال تعالى { فسوف يلقون غياً } والغي الشر والخيبة - في قول ابن عباس وابن زيد - قال الشاعر:

فمن يلق خيراً يحمد الناس امره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

اي من يخب. وقال عبد الله بن مسعود: الغي واد في جهنم. وقيل معناه يلقون مجازاة غيهم. ثم استثنى من جملتهم من يتوب فيما بعد ويرجع الى الله ويؤمن به ويصدق أنبياءه، ويعمل الاعمال الصالحة من الواجبات والمندوبات، ويترك القبائح فان { أولئك يدخلون الجنة } من ضم الياء أراد أن الله يدخلهم الجنة بأن يأمرهم بدخولها، فضم لقوله { ولا يظلمون } ليتطابق اللفظان. ومن فتح الياء أراد أنهم يدخلون بأمر الله. والمعنيان واحد. وقوله { ولا يظلمون شيئاً } معناه لا يبخسون شيئاً من ثوابهم بل يوفر عليهم على التمام والوفاء.