التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ ابن عامر، وحمزة،، والكسائي، وخلف: { ولكن الشياطين }
{ ولكن الله قتلهم } } { { ولكن الله رمى } بتخفيف النون من (لكن) وكسرها في الوصل، ورفع الاسم بعدها. الباقون بالتشديد. وروي تثنية { الملكين } بكسر اللام، ها هنا حسب.
المعنى:
واختلفوا في المعني بقوله { واتبعوا } على ثلاثة اقوال: فقال ابن جريج، وابو اسحاق: المراد به اليهود الذين كانوا في زمن النبي "صلى الله عليه وسلم" وقال الجبائي: المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان. وقال قوم: المراد به الجميع وهو قول المتأخرين، قال:، لان مبتغي السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى ان بعث محمد "صلى الله عليه وسلم". وروي عن الربيع: أنّ اليهود سألوا محمداً "صلى الله عليه وسلم" زماناً عن امور من التوراة ـ لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا انزل الله عليه ما سألوا عنه ـ فيخبرهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما انزل علينا منا وانهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } ومعنى { تتلوا } قال ابن عباس: تتبع، لان التالي تابع. وقال بعضهم: يُدّعى ـ وليس بمعروف ـ وقال قتادة، وعطا: معناه تقرأ من تلوت كتاب الله: اي قراته. وقال تعالى:
{ { هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت } اي تتبع وقال حسان بن ثابت:

بنيّ يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد

والذي تتلوه هو السحر ـ على قول ابن اسحاق، وغيره من اهل العلم: ـ وقال بعضهم: الكذب. ومعنى قوله: { على ملك سليمان } على عهد سليمان. قال ابن اسحاق وابن جريج: في ملك سليمان حين كان حياً. وهو قول المبرد وقال قوم: إنما قال تتلو { على ملك } لانهم كذبوا عليه بعد وفاته كما قال: { { ويقولون على الله الكذب } وقال: { { أتقولون على الله ما لا تعلمون } وقال الشاعر:

عرضت نصيحة من ليحيى فقال غششتني والنصح مرّ
وما بي ان اكون اعيب يحيى ويحيى طاهر الاخلاق برّ
ولكن قد اتاني ان يحيى يقال عليه في نفعاء شرّ

فاذا صدق، قيل: تلا عنه. واذا كذب، قيل تلا عليه، واذا أبهم، جاز فيه الامران. قوله: { الشياطين } قال قوم: هم شياطين الجن، لان ذلك هو المستفاد من اطلاق هذه اللفظة. وقال بعضهم: المراد به الشياطين الانس المتمرّدة في الضلالة.
كما قال جرير:

ايام يدعونني الشيطان من غزلي وكنّ يهوينني اذ كنت شيطانا

وقوله: { وما كفر سليمان } وإن لم يجر لذلك ذكر، يكون هذا تكذيباً له. فمعناه ان اليهود اضافوا إلى سليمان السحر، وزعموا ان ملكه كان به، فبرّأه الله مما قالوا. وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة. وقال ابن اسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد "صلى الله عليه وسلم" يزعم أن سليمان كان نبياً، والله ما كان إلا ساحرا فانزل الله تعالى: { وما كفر سليمان } وقيل: تقدير الكلام واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، فتضيفه إلى سليمان. وما كفر سليمان. لان السحر لما كان كفرا، نفى الله تعالى عنه ذلك على المعنى ـ وان كانوا لم يضيفوا اليه كفرا ـ والسبب الذي لاجله اضافت اليهود إلى سليمان السحر، ان سليمان جمع كتب السحر تحت كرسيه. وقيل في خزائنه، لئلا يعمل به فلما مات وظهر عليه قالت الشياطين: بهذا كان يتمّ ملكه، وشاع في اليهود وقبلوه، لعداوتهم لسليمان. وقيل انهم وضعوا كتاب السحر بعد سليمان واضافوه اليه وقالوا: بهذا كان يتمّ له مكان فيه، فكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفى عنه ذلك.
اللغة:
والسحر والكهانة والحيلة نظائر. يقال سحره يسحره سحرا، واسحرنا اسحارا، وسّحره تسحيراً. قال صاحب العين: السحر عمل يقرّب إلى الشيطان. كل ذلك يكتبونه السحر. ومن السحر الاخذة التي تأخذ العين حتى يظن ان الامر كما ترى وليس الأمر كما ترى ـ والجمع الاخذ. والسحر البيان من اللفظ كما قال النبي "صلى الله عليه وسلم":
"ان من البيان لسحراً" ، والسحر فعل السحر في شيء يلعب به الصبيان اذا مد خرج على لون، فاذا مد من جانب آخر خرج على لون آخر يسمى السحارة والسحر العدو قال لبيد:

ارانا موضعين لامر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب

وقال آخر:

فان تسلينا مم نحن فاننا عصافير من هذا الانام المسحر

وقوله: { { إنما أنت من المسحرين } يعنى من المخلوقين. وفي تمييز العربية هو المخلوق الذي يطعم، ويسقى، والسحَر اخر الليل. بالتنوين.
قال الطرماح:

بان الخليط بسحرة فتبددوا والدار تشعب بالخليط وتبعد

وتسحّرنا اكلنا سحوراً، واسحرنا كقولك اصبحنا. والسحر الرئة مخفف، وما يتعلق بالحلقوم. ويقال للجبان اذا جبن انتفخ مسحره واستحر الطائر اذا غلبه بسحر. واصل الباب الخفاء، والسحر قيل: الخفاء سببه توهم قلب الشيء عن حقيقته كفعل السحرة في وقت موسى ـ لما اوهموا ان العصا والحبال صارت حيوانا ـ فقال: { { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } }. وقوله: { لكن الشياطين كفروا } قيل فيه ثلاثة اقوال:
احدها ـ انهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.
والثاني ـ انهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
والثالث ـ معناه ولكن الشياطين سحروا فعبر عن السحر بالكفر.
وقوله: { يعلمون الناس السحر } قيل فيه قولان:
احدهما ـ انهم القوا السحر اليهم فتعلموه.
[والثاني ـ انهم دلوه على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه]
وقوله: { وما أنزل على الملكين } قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والسدي: ان (ما) بمعنى الذي. وقال الربيع في احدى الروايتين عن ابن عباس: انها بمعنى الجحد. وروي عن القاسم بن محمد: انها تحتمل الامرين. وموضع (ما) نصب لفظها على السحر، وقيل انها عطف على (ما) في قوله: { ما تتلوا الشياطين } وقال بعضهم: موضعها جر عطف على ملك سليمان، وعلى ما انزل. ومن قرأ بكسر اللام في الملكين قال: هما من ملوك بابل، وعلوجها. وهو قول ابي الاسود الدؤلي، والربيع، والضحاك، وبه قرأ الحسن البصري، ورواها عن ابن عباس، واختلف من قال بهذا فقال قوم: كانا مؤمنين، ولذلك نهيا عن الكفر. وقال قوم: انهما كانا نبيين من انبياء الله. ومن قرأ بالفتح. قال قوم منهم: كانا ملكين وقال آخرون: كانا شيطانين. وقال قوم: هما جبريل وميكائيل خاصة. واختلفوا في بابل فقال قوم: هي بابل العراق، لانها تبلبل بها الالسن: وروي ذلك عن عائشة وابن مسعود. وقيل: بابل دماوند. ذكره السدي. وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين. وقال الحسن ان الملكين ببابل الكوفة إلى يوم القيامة، وان من اتاهما سمع كلامهما. ولا يراهما وبابل بلد لا ينصرف.
وقيل في معنى السحر اربعة اقوال:
احدها ـ انه خدع ومخاريق، وتمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة.
والثاني ـ انه اخذ بالعين على وجه الحيلة.
والثالث ـ انه قلب الحيوان من صورة إلى صورة، وانشاء الاجسام على وجه الاختراع فيمكن الساحر ان يقلب الانسان حماراً وينشىء اجساماً.
والرابع ـ انه ضرب من خدمة الجن كالذي يمسك له التجدل فيصرع، واقرب الاقوال الاول، لان كل شيء خرج عن العادة الخارقة، فانه لا يجوز أن يتأتى من الساحر. ومن جوز للساحر شيئاً من هذا، فقد كفر لانه لا يمكنه مع ذلك العلم بصحة المعجزات الدالة على النبوات، لانه اجاز مثله من جهة الحيلة والسحر.
وقوله: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } يتصل قوله: { فلا تكفر } باحد ثلاثة أشياء: احدها ـ فلا تكفر بالعمل بالسحر والثاني ـ فلا تكفر بتعلم السحر ويكون مما امتحن الله عز وجل به كما امتحن بالنهر في قوله:
{ { فمن شرب منه فليس منى } وثالثها ـ فلا تكفر بواحد منهما للتعلم للسحر والعمل به فان قيل كيف يجوز ان يعلم الملكان السحر؟ قيل يعّلمان ما السحر وكيف الاحتيال به، ليجتنب، ولئلا يتموه على الناس انه من جنس المعجزات التي تظهر على يد الانبياء فيبطل الاستدلال بها. وقال جماعة من المفسرين منهم: ابو علي وغيره: انزلهما الله من السماء وجعلهما بهيئة الانس، حتى بينا للناس بطلان السحر. وقال الحسن وقتادة: اخذ عليهما ألا يعلماه { حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر }.
وقوله: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } على قول من جعل ما جحداً.
وقوله: { وما أنزل على الملكين } يحتمل ان يكون ذلك من قولِ هاروت وماروت وليسا ملكين. كما يقول الغاوي الخليع لنا انك في ضلال فلا تردّ ما انا فيه، فيقرّ بالذنب وهو يأتيه. والتقدير على هذا: { ولكن الشياطين كفروا } هاروت وماروت. فمن قرأ الملكين بفتح اللام ـ وهو قراءة الجمهور، اختلفوا فمنهم من قال: ان سحرة اليهود زعموا ان الله انزل السحر على لسان جبريل، وميكايل إلى سليمان، فاكذبهم الله بذلك وفي الكلام تقديم وتأخير، فتقديره وما كفر سليمان وما انزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا. يعلمان الناس السحر. ببابل هاروت وماروت ـ وهما رجلان ببابل غير الملكين اسم احدهما ـ هاروت والآخر ماروت، ويكون هاروت وماروت بياناً عن الناس. وقال قوم: ان هاروت وماروت ملكان من الملائكة. واختلفوا في سبب هبوطهما ـ على قولين.
فقال قوم: ان الله اهبطهما ليامرا بالدين، وينهيا عن السحر، لان السحر كان كثيراً في ذلك الوقت، ثم اختلفوا فقال قوم: كانا يعلمان الناس كيفية السحر وينهيانهم عن فعله، ليكون النهي بعد العلم به، لان من لا يعرف الشيء فلا يمكنه اجتنابه. وقال قوم آخرون: لم يكن للملكين تعليم السحر، ولا اظهاره، لما في تعليمه من الاغراء بفعله. والثالث هبطا لمجرد النهي ـ اذ كان السحر فاشيا ـ.
وقال قوم: كان سبب هبوطهما ان الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم، فقال لهم: اما لو كنتم مكانهم لعملتم مثل اعمالهم، فقالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا، فامرهم ان يختاروا ملكين ليهبطا إلى الارض فاختاروا هاروت وماروت، فاهبطا إلى الارض، ورّكب فيهما شهوة الطعام والشراب والنكاح، واحلّ لهما كل شيء بشرط الا يشركا بالله ولا يشربا الخمر ولا يزنيا، ولا يقتلا النفس التي حرم الله فعرضت لهما امرأة للحكومة فمالا اليها، فقالت لهما لا اجيبكما حتى تعبدا صنماً وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، فعبدا الصنم وواقعاها، وقتلا سائلاً مرّ بهما خوفاً ان يشهر امرهما في حديث طويل، لا فائدة في ذكره. قال كعب فوالله ما امسيا من يومهما الذي اهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه فتعجبت الملائكة من ذلك ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصّعود إلى السماء وكانا يعلمان الناس السحر ومن قال: بعصمة الملائكة، لم يجز هذا الوجه. وقال قوم من اهل التأويل: ان ذلك على عهد ادريس. وانما قوله: { إنما نحن فتنة }.
اللغة:
فالامتحان والفتنة والاختبار نظائر. يقال فتنه فتنة وافتتن افتتانا. وقال ابو العباس، فتن الرّجل وأفتن بمعنى اختبر. وتقول: فتنت الرجل، وافتنته. ولغة قريش: فتنته قال الله تعالى:
{ { وفتناك فتونا } وقال { { ولقد فتنا سليمان } وقال اعشى همدان:

لئن فتنتنى فهي بالامس افتنت سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم

فجاء باللغتين. وقوله تعالى: { { فظن داود أنما فتناه } اي اختبرناه. ويقال فتنت الذهب في النار: اذا اختبرته فيها، لتعلم اخالص هوام مشوب. فقيل ـ لكل ما أحميته في النار: ـ فتنته. وتقول فتنت الخبزة في النار: اذا أنضجتها. ومثله يقال في اللحم. قوله: { { والفتنة أشدّ من القتل } اي الكفر أشد من القتل. والفتن في الدين والحروب وقولهم: فتنة السوط أشد من فتنة السيف، ومعناه اختبار السوط أشد لان فيه تغذيباً متطاولاً. وقوله: { { يوم هم على النار يفتنون } اي يشوون. ومن قولك فتنت الخبز والمعنى الصحيح انهم يعذبون بكفرهم. يقال فتن الكافر، العذاب وافتنته اي جزاه بفتنته. كقولك: كذب واكذبته. وكل من صبأ فقد فتن. وقوله: { { بأيكم المفتون } قال الاخفش: معناه الفتنة: فهو مصدر، كقولك: رجل ليس له معقول، وخذ ميسوره ودع معسوره. وابى ذلك سيبويه. وقال: خذ ميسوره اي ما تيسر له. وليس له مرفوع: اي ما يرفع. قال صاحب العين: فتن فلان فتوناً فهو فاتن: اي مفتن. وقوله: { وما أنتم عليه بفاتنين } اي مضلّين ـ عن الحسن ومجاهد. ـ وأصل الباب الاختبار. ومعناه في الآية: انما نحن اختبار وبلوى وامتحان، فلا تكفر. وقال قتادة: { إنما نحن فتنة } اي بلاء. ويحتمل أن يكون معناه انهما كانا كافرين، فيكون معنى قولهما: { إنما نحن فتنة } اي شيء عجيب مستطرف كما يقال للمرأة الحسناء انها فتنة من الفتن. ويكون قوله: { فلا تكفر } على هذا الوجه يعني بما جئناك به، بل صدّق به واعمل عليه. وقوله: { حتى يقولا } يحتمل امرين:
احدهما ـ ان حتى، بمعنى إلا وتقديره وما يعلمان من احد إلا أن يقولا: انما نحن فتنة، فلا تكفر ويكون ذلك زيادة في الابتلاء من الله في التكليف.
والثاني ـ انه نفي لتعليمهما الناس السحر، وتقديره ولا يعلمان أحداً السحر، فيقولان: { إنما نحن فتنة فلا تكفر } فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين، والنهي عنه من الملكين.
وقوله: { فيتعلمون } قال قوم: معنى تعلم واعلم واحد. كما جاء علمت، واعلمت، وفهمت، وافهمت كما قال كعب بن زهير:

تعلم رسول الله إنك مدركي وان وعيداً منك كالاخذ باليد

وقال القطامي:

تعلم ان بعد الغي رشداً وان لهذه الغير انقشاعا

ومنهم من قال: تعلم بمنزلة تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الادلة. وليس في اعلم ذلك، لانه قد ينبئهم على ما يعلمه بالتأمل له: كقوله: اعلم ان الفعل يدل على الفاعل. وما لم يسبق المحدث فهو محدث. والأول كقوله: تعلم النحو والفقه. فان قيل كيف يفرق بين المرء وزوجه؟ قلنا فيه ثلاثة اقوال:
احدها ـ انه اذا تعلم السحر كفر فحرمت عليه امرأته.
والثاني ـ ان يمشي بينهما بالنميمة حتى يفسد بينهما، فيفضي إلى الطلاق والبينونة.
والثالث ـ قال قتادة وغيره: يوجد كل واحد منهما على صاحبه ويبغضه اليه. وقيل: انه كان من شرع سليمان أن من تعلم السحر، بانت منه زوجته. وقوله: { منهما } الضمير ـ قيل: ـ انه راجع إلى الملكين. وقيل بل إلى الكفر والسحر. لانه تقدم الدليل عليهما في قوله: { ولكن الشياطين كفروا } كما جاء
{ { سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى } اي يتجنب الذكرى. ومن قال الملائكة معصومون، يقول الكناية ترجع إلى الكفر والسحر لا غير دون الملكين. فكأنه قيل: { فيتعلمون } مكان ما علماهم { ما يفرقون به بين المرء وزوجه }، كقول القائل: ليت لنا من كذا، وكذا كذا: اي بدله. قال الشاعر:

جمعت من الخيرات وطباً وعُلبة وصراً لأخلاف المزممة البزل
ومن كل اخلاق الكرام نميمة وسعياً على الجار المجاور بالنَّجل

يريد جمعت مكان خيرات الدنيا هذه الخيرات الرديئة، والافعال الدنيئة.
اللغة:
وقوله: { يفرقون بين المرء وزوجه } فالمرء تأنيثه المرأة. قال صاحب العين: امرأة تأنيث المرء ويقال مرأة بلا ألف. والمرأة مصدر الشيء المريء الذي يستمرأ يقال ما كان مريئاً، ولقد مرؤ واستمرأته، وهو المرىء، للطعام وأصل الباب المرىء، فقولهم مرأة كقولهم جارية اي جرت في النور والشباب. فأمّا امراء الطعام فانه يجري وينفذ في مجاريه، ولا يقف. وكذلك المرأة تجري في السن إلى حد. وفرق في الشواذ ما بين المرء ـ بضم الميم ـ وهي لغة هذيل. قوله: { وما هم بضارين به من أحد } فالضرر والالم والاذى نظائر. والضر نقيض النفع. يقال ضره يضره ضراً، واضر به اضراراً، واستضر استضراراً، واضّطّر اضطراراً. وضاره مضارّة وضراراً. قال صاحب العين: الضَّر والضٌّر لغتان، فاذا جمعت الضر والنفع. فتحت الضاد. والضرر نقصان يدخل في الشيء. يقال دخل عليه ضرر في ماله. والضرورة اسم لمصدر الاضطرار. والضرير: الذاهب البصر من الناس. تقول: رجل ضرير بين الضرارة. والضراء من الضر. وقوم اضراء.
والضرر مصدر اضره مضارة وفي الحديث
"لا ضرر ولا ضرار" واذا ضرّ به المرض قيل: ضرير، وامرأة ضريرة. والضرير: اسم للمضارة، واكثر ما يستعمل في الغيرة تقول: ما اشد ضريره عليها. قال الشاعر يصف حماراً وحشياً: ـ

حتى اذا مالان من ضريره

والضرتان: امرأتان للرجل، والجمع الضرائر. والضرتان: الالية من جانبي عظمها، وهما الشحمتان اللتان تهدلان من جانبيها. وضرة الابهام: لحمة تحتها. وضرة الضرع: لحمة تحتها. والضر: الهزال. وضرير الوادي: جانباه وكل شيء دنا منك حتى يزحمك: فقد اضربك. وأصل الباب: الانتقاص.
وقوله: { من أحد إلا بإذن الله } يحتمل امرين:
احدهما ـ بتخلية الله.
والثاني ـ الا بعلم الله من قوله: { فأذنوا بحرب من الله } معناه اعلموا. بلا خلاف ويقال: انت آذن اذناً. قال الحطيئة:

الا يا هند إن جددت وصلا والا فاذنيني بانصرامي

وقال الحارث بن حلزّة:

آذنتنا ببينها اسماء

معناه اعلمتنا. والاذن في اللغة على ثلاثة أقسام:
احدها ـ بمعنى العلم وذكرنا شاهده.
والثاني ـ الاباحة والاطلاق كقوله
{ { فانكحوّهن بإذن أهلهن } }. وقوله: { { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } }. والثالث ـ بمعنى الامر: كقوله: { { نزله على قلبك بإذن الله } وقد اجمعت الأمة على انه لم يأمر بالكفر، ولم يتجه نفي القسم الثالث. ولا يجوز أن يكون المراد { إلا بإذنه } الا بارادته، ومشيئته، لأن الارادة لا تسمى إذناً. الا ترى أن من اراد الشيء من غيره أن يفعله، لا يقال أذن له فيه؟ فبطل ما قالوه. وقد روي عن سفيان إلا بقضاء الله. وقال بعض من لا معرفة له: الاذن بمعنى العلم بفتح الهمزة والذال دون الاذن بكسر الهمزة وسكون الذال ـ وهذا خطأ، لان الاذن مصدر يقال فيه اذن واذن مثل حذر وحذر. وقال تعالى: { { خذوا حذركم } ويجوز فيه لغتان مثل: شِبه وشَبه ومِثل ومَثل. وقال هذا القائل: من شاء الله يمنعه، فلم يضره السّحر. من شاء خلى بينه، وبينه، يضره. وقوله: { ولا ينفعهم }.
اللغة:
فالنفع نقيض الضر. والنفع والمنفعة واللذة نظائر. يقال نفع ينفع نفعا، فهو نافع. وانتفع فلان بكذا وكذا. ورجل نفاع ينفع الناس. وأصل النفع: ضد الضر. وحد النفع هو كل فعل يكون الحيوان به ملتذا: اما لانه لذة، او يؤدي إلى اللذة. والمضرة كل معنى يكون الحيوان به ألما: اما لانه ألم، او يؤدي إلى الالم.
والهاء في قوله { لمن اشتراه } عائدة إلى السحر.
المعنى:
والمعنى لقد علمت اليهود أن من استبدل السحر بدين الله، ما له في الآخرة من خلاق. وهو قول ابن زيد، وقتادة. وقال قوم من المفسرين، كأبي علي، وغيره. كانوا يعطون عليه الأجرة، فلذلك اشتراؤهم له. والخلاق: النصيب من الخير، وهو قول مجاهد، وسفيان. وقال قوم: ما له من جهة. وقال الحسن: ما له من دين. قال امية بن ابي الصلت:

يدعون بالويل فيها لاخلاق لهم إلا سرابيل من قطر واغلال

يعني لا نصيب لهم في الآخرة من الخير. ومعنى { شروا به أنفسهم } باعوا به انفسهم في قول السدي، وغيره ـ فان قيل: كيف قال: { لو كان يعلمون } وقد قال قبله { ولقد علموا لمن اشتراه }؟ قلنا عنه ثلاثة اجوبة:
احدها ـ إنهم فريقان: فريق علموا. وعاندوا وفريق علموا وضيعوا.
والثاني ـ انهم فريق واحد إلا انهم ذُمّوا في أحد الكلامين بنفي العلم، لانه بمنزلة المنتفي. واخبر عن حالهم في الاخرة وتقديره أنهم علموا قدر السّحر، ولم يعلموا ان هلاكهم بتصديقه، واستعماله، اولم يعلموا كنه ما اعد الله من العذاب على ذلك وان علموه على وجه الجملة.
[والثالث] وقال قوم: هو مقدّم ومؤخر. وتقديره وما هم بضارين به من احد الا باذن الله، ويتعلمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولبئس ما شروا به انفسهم لو كانوا يعلمون. ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق وقال بعضهم: هما جميعاً خبر عن فريق واحد، واراد بقوله: { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } اي لو كانوا يعلمون بما علموه فعبر عن المعلوم بالعلم، كما قال كعب بن زهير المزني يصف ذئباً وغرابا تبعاه، لينالا من طعامه، وزاده:

اذا حضراني قلت لو تعلمانه الم تعلما اني من الزاد مرمل

فاخبر انه قال لهما: لو تعلمانه فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما، فقال: الم تعلما، وكذلك الآية. وقال قوم: إن الذين علموا الشياطين والذين لم يعلموا الناس دون الشياطين، فان قيل: ما معنى لمن اشتراه، واين جوابها ان كانت شرطا؟ قلنا عنه جوابان احدهما ـ انها بمعنى الجزاء. والآخر بمعنى الذي في قول الزجاج، وجوابها مكتفى منه جواب القسم. كما قال: { { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم } ولذلك وقع قالوا: ولا يجوز الجزم إلا في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر:

لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً اصم في نهار الفيظ للشمس باديا

والوجه، لاصومنْ. ولا يجوز لاصوم إلا في ضرورة الشعر كما قال:

لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ليعلم ربي ان بيتي واسع

قالوا وان جزمت الاول، جاز جزم الثاني، كقولك: لئن تقم لا نقم إليك.
وقوله: { فيتعلمون } يجوز ان يكون عطفاً على فيأتون فيتعلمون، وقد دل اول الكلام على يأتون. وقيل: فيعلمون الناس السحر فيتعلمون ـ وكلاهما ذكره الكسائي والفراء ـ وانكر الزجاج القول الاخير، لاجل قوله: { منهما } اي من الملكين، واجاز القول الاول، واختار قولاً ثالثاً: وهو يعلمان، فيتعلمون، والذي انكره يجوز إذا كان { منهما } راجعاً إلى السحر والكفر، ولا يجوز ان يكون { فيتعلمون } جواباً لقوله: { فلا تكفر } فينصب، لان تقديره لا يكن كفر فتعلم، كما تقول: لا تدن من الأسد فيأكلك: اي لا يكن دنو فأكل. فهذا نهي عن دنو يقع بعده اكل. وانما النهي في الاول عن الكفر بتعلم السحر، للعمل وليس يصلح للجواب على هذا المعنى. ولا يجوز ان يكون جواباً للنفي في قوله: { وما يعلمان }، لان لفظه على النفي، ومعناه الايجاب كانه قيل: يعلمان اذا قالا نحن فتنة فلا تكفر. فان قيل: ما اللام الاولى في قوله: { ولقد علموا } وما الثانية في قوله: { لمن اشتراه } ومثله قوله:
{ { ولئن جئتهم بآية ليقولن } قيل: الثانية لام القسم بالاجماع قال الزجاج: لانك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك ـ في قولك: والله لئن جئنني لا كرمّنك ـ فأمّا الاولى فزعم بعض النحويين أنها لما دخلت في اول الكلام اشبهت لام القسم، فاجيبت بجوابه ـ قال الزجاج: هذا خطأ، لأن جواب القسم لا يشبه القسم، ولكن اللام الاولى دخلت إعلاماً ان الجملة بكاملها معقودة بالقسم، لان الجزاء ـ وان كان القسم عليه ـ، فقد صار للشرط فيه حظ، ولذلك دخلت اللام. قال الرماني: هذا الذي ذكره، لا يبطل شبهها بالقسم، لأنها للتوكيد، كما انه للتوكيد، فكأنه قال: والله إن اتيتني لاكرمنّك والظاهر في ورايات اصحابنا ان الساحر يجب قتله وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف. وقال ابو علي من قال: انه بقلب الاجسام، وينشئها، يجب قتله ان لم يتب، لأنه مرتد كافر بالانبياء، لانه لا يجد بين ما ادعى وبين آياتهم فضلاً واما من قال: إنه يموه ويمخرق، فانه يؤدب، فلا يقتل. واما الروايات التي في ان الملكين اخطأا، وركبا الفواحش، فانها اخبار آحاد. من اعتقد عصمة الملائكة، يقطع على كذبها ومن لم يقطع على ذلك، جوز ان تكون صحيحة، ولا يقطع على بطلانها. والذي نقوله ان كان الملكان رسولين فلا يجوز عليهما ذلك، وان لم يكونا رسولين، جاز ذلك ـ وان لم نقطع به ـ وقد بينا الكلام عليه فيما مضى. فأما ما روي من أن النبي "صلى الله عليه وسلم" سحر ـ وكان يرى انه يفعل ما لم يفعله ـ وانه لم يفعله فأخبار آحاد، لا يلتفت اليها. وحاشى النبي "صلى الله عليه وسلم" من كل صفة نقص، اذ تنفر من قبول قوله، لانه حجة الله على خلقه، وصفيه من عباده، واختاره الله على علم منه. فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الغظاظة والغلظة، وغير ذلك من الاخلاق في الدنيئة، والخلق المشينة، ولا يجّوز ذلك على الانبياء الا من لم يعرف مقدارهم ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم. وقد قال الله تعالى: { { والله يعصمك من الناس } وقد اكذب الله من قال: ان يتبعوا إلا رجلاً مسحوراً. فقال: { { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } فنعوذ بالله من الخذلان، ونحمده على التوفيق لما يرضاه.
و "لكن" مشدّدة، ومخففة معناهما واحد. قال الكسائي: والذي أختارته العرب اذا كانت (ولكن) بالواو مشددة، واذا كانت بلا واو اختاروا التخفيف ـ وكل صواب ـ وقرىء بغير ما اختاروه اتباعاً للاخبار في القراءة.