التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ نافع وابن عامر { واتخذوا } على لفظ الخبر. الباقون بلفظ الامر.
المعنى:
قوله: { وإذ جعلنا } عطف على قوله { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } وذلك معطوف على قوله: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } واذكروا { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } { وإذ جعلنا البيت مثابة } والبيت الذي جعله مثابة هو البيت الحرام.
اللغة:
والبيت في اللغة، والمنزل، والمأوى نظائر. يقال: بات يبيت بيتوتة، وبيته مبايتة. وتبيت تبيتاً. وتبايتوا تبايتاً. والبيت من أبيات الشعر ومن بيوت الناس. والبيت من بيوتات العرب: احياؤها. وبيت فلان أبياتاً تبيتاً اذا بناها. البيتوتة: الدخول في الليل. تقول: بت افعل كذا، وبالنهار ظللت وباتوا بيتوتة حسنة. وأباتهم الله إباتة. وأباتهم الامر بياتاً كل ذلك دخول الليل. وليس من النوم في شيء وما عنده بيت ليلة. ولا بيتة ليلة بكسر الباء يعني القوت. والله يكتب ما يبيتون عمل الليل وبيت القوم اذا اوقعت فيهم ليلا. والمصدر البيت. والاسم: البيات. ومنه قوله: { بأسنا بياتا } ويسمى البيت من الشعر بيتاً لضمه الحروف والكلام كما يضم البيت أهله وامرأة الرجل: بيته. قال الراجز:

مالي اذا اخذتها صأيت أكبر غيرني أم بيت

وماء بيوت اذا بات ليلة في إنائه واصل الباب البيت: المنزل
وقوله: { مثابة } في معناه خلاف. قال الحسن يثيبون اليه كل عام، أي ليس هو مرة في الزمان فقط. وقال ابن عباس: معناه أنه لا ينصرف عنه احد، وهو يرى انه قد قضى منه وطراً، فهم يعودون اليه. وقال ابو جعفر (ع): يرجعون اليه لا يقضون منه وطراً وبه قال مجاهد. وحكي الخازئي ان معناه يحجون اليه فيثابون عليه. وقال الجبائي يثوبون اليه: يصيرون اليه.
اللغة:
والفرق بين مثابة ومثاب، ان الاخفش قال: مثابة للمبالغة لما كثر من يثوب اليه. كما قيل علامة ونسابة وسيارة وقال الفراء والزجاج: معناهما واحد. كالمقامة والمقام بمعنى واحد. ووزن مثابة مفعلة واصلها مثوبة. من ثاب يثوب مثابة، ومثابا. وثوابا: اذا رجع فنقلت حركة الواو إلى الياء ثم قلبت على ما قبلها. قال ورقة بن نوفل في صفة الحرم:

مثاب لافناء القبائل كلها تخب اليه اليعملات الطلائح

ومنه ثاب اليه عقله، أي رجع اليه بعد عزوبه. وقوله { وأمنا } فالامن مصدر قولك أمن يأمن أمنا. وانما جعله أمنا بان حكم ان من عاذ به والتجأ لا يخاف على نفسه ما دام فيه بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه فكان من فيه آمنا على ماله ودمه ويتخطف الناس من حوله كما قال: { { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } ولعظم حرمته ان من جنى جناية والتجأ اليه لا يقام عليه الحد حتى يخرج لكن يضبق عليه في المطعم والمشرب، والبيع والشراء، حتى يخرج منه، فيقام عليه الحد. فان احدث فيه ما يوجب الحد أقيم عليه فيه، لانه هتك حرمة الحرم. ولان الله تعالى جعل الاشهر الحرم لا يحل فيها القتال، والقتل وكل ذلك بسبب البيت الحرام، فهو آمن بهذه الوجوه.
القراءة والاعراب:
وقوله: { واتخذوا من مقام إبراهيم } اكثر القراء على لفظ الامر. إلا ابن عامر ونافع فانهما قرأ اعلى لفظ الخبر من فعل ماض ويحتمل ان يكون اللفظ معطوفا على قوله: "واذكروا" كانه قال يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي، واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى.
المعنى:
وقال الربيع بن انس: من الكلمات التي ابتلى ابراهيم ربه قوله: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وكأنه قال: { إني جاعلك للناس إماما } وقال: { اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقيل: انه معطوف على { وإذ جعلنا البيت } لان معناه واذكروا اذا جعلنا البيت واتخذوا وقيل: انه معطوف على معنى { جعلنا البيت مثابة للناس } لأن فيه معنى ثوبوا اليه واتخذوا. وظاهر قوله: واتخذوا انه عام لجميع المكلفين إلا من خصه الدليل وعليه اكثر المفسرين. وقال ابو علي الفارسي: وجه قراءة من قرأ، على الخبر انه عطف على ما أضيف اليه اذ كأنه قال واذ اتخذوا قال. وتقوية قوله ان ما بعده خبر، وهو قوله { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل }.
المعنى:
المعني بقوله: { من مقام } قيل فيه اربعة أقوال:
احدها ـ قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم.
[ثانيها] ـ وقال عطا مقام ابراهيم عرفة والمزدلفة والجمار.
[ثالثها] ـ وقال مجاهد: الحرم كله مقام ابراهيم.
[رابعها] ـ وقال السدي: مقام ابراهيم هو الحجر الذى كانت زوجة اسماعيل وضعته تحت قدم ابراهيم حين غسلت رأسه. فوضع ابراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت ايضا رجله فيه فجعلها الله من شعائره، فقال { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وبه قال الحسن، وقتادة، والربيع، واختاره الجبائي، والرماني، وهو الظاهر في اخبارنا، وهو الاقوى، لان مقام ابراهيم اذا اطلق لا يفهم منه إلا المقام المعروف الذي هو في المسجد الحرام. وفي المقام دلالة على نبوة ابراهيم (ع)، لان الله تعالى جعل الصخرة تحت قدمه كالطين حتى دخلت قدمه فيها وكان ذلك معجزة له ـ. وقيل في معنى قوله { مصلى } ثلاثة أقوال
قال مجاهد: مدعى مأخوذ من صليت بمعنى دعوت.
وقال الحسن والجبائي: قبلة.
وقال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده. وهو المروي في أخبارنا. وبذلك استدلوا على أن صلاة الطواف فريضة مثله، لان الله تعالى أمر بذلك والامر يقتضي الوجوب، وليس ها هنا صلاة يجب اداؤها عنده غير هذه بلا خلاف.
وقوله: { عهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرنا ان طهرا. قال الجبائي: أمرا أن يطهراه من فرث ودم كان يطرحه عنده المشركون قبل ان يصير في يد ابراهيم. ويجوز أن يريد طهراه من الاصنام، والاوثان التي كانت عليه للمشركين قبل أن يصير في يد ابراهيم. وبه قال قتادة، ومجاهد. وقال السدي طهراه ببنائكما له على الطهارة، كما قال:
{ { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير } } اللغة:
والطائف والدائر والجائل نظائر. طاف يطوف طوافا اذا دار حول الشيء. وأطاف به اطافة: اذا ألم به. وطوف تطويفا. والطوف: خشب أو قصب يجمع بعضه إلى بعض، يركب عليه في البحر. والطوفان مصدر طاف يطوف طوفا. فاما طاف بالبيت فهو طواف. وأطاف به اذا احاط به. والطائف: العاس. والطوافون المماليك كقوله:
{ { طوافون عليكم } والطائف: طائف الجن والشيطان. وكل شيء يغشى القلب من وسواسه فهو طيفه. والطائفة من كل شيء قطعة. تقول: طائفة من الناس، وطائفة من الليل. قال الله تعالى { طائفة من الذين معك } واصل الباب الطوف: الدور.
المعنى:
ومعنى { الطائفين } ها هنا قيل فيه قولان:
احدهما ـ ما قال سعيد بن جبير: { الطائفين } من أتاه من غربة.
والثاني ـ قال عطا واختاره الجبائي، وغيرهم: الطائفون بالبيت. ـ وهو الاصح ـ
وقوله: { والعاكفين } ها هنا قيل فيه اربعة أقوال:
الاول ـ قال عطا واختاره الجبائي: انهم المقيمون بحضرته.
والثاني ـ قال مجاهد وعكرمة: انهم المجاورون.
والثالث ـ قال سعيد بن جبير، وقتادة: انهم أهل البلد الحرام.
والرابع ـ قال ابن عباس: هم المصلون. والاول أقوى، لانه المفهوم من اطلاق هذه اللفظة. قال النابغة

عكوف على ابياتهم يثمدونها رمى الله في تلك الاكف الكوانع

اللغة:
والعكف واللزوم والدوام على الشيء نظائر. تقول عكف يعكف، عكفاً وعكوفاً، اذا الزم الشيء وأقام عليه فهو عاكف، وعكف الطير بالقتيل. والعاكف المعتكف في المسجد، قلما يقولون عكف، وان قيل كان صوابا، وانما يقولون: اعتكف. ويقال للنظم اذا نظم فيه الجوهر: عكف تعكيفاً. والمعكوف: المحبوس واصل الباب العكف وهو اللزوم.
المعنى:
والمعني بقوله: { والركع السجود } قال قتاده وعطا: هم الذين يصلون عند الكعبة، يركعون عندها، ويسجدون. وقال الحسن: { الركع السجود } جميع المؤمنين، وبه قال الفراء. وهو الاقوى، لانه العموم. فان قيل: كيف امر الله تعالى ان يطهر بيته ولم يكن هناك بيت بعد؟ قيل: معناه ابنيا لي بيتاً مطهراً ـ في قول السدي ـ وقال عطا: معناه طهرا مكان البيت الذي تبنياه فيما بعد. وفي الآية دلالة على ان الصلاة جوف البيت جائزة.