التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
١٦
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
ضم جميع القراء الواو من { اشتروا الضلالة } وروى السوخردي عن زيد ابن اسماعيل بتخفيف ضمة الواو، وكذلك نظائره، نحو: { لنبلون }، { فتمنوا الموت }. وروى عن يحيى بن يعمر في الشواذ أنه كسرها، شبهها بواو: { لو } في قوله:
{ { لو استطعنا لخرجنا } وضم يحيى بن وثاب واو (لووا) وفيما ذكرناه شبهها بواو الجمع، والصحيح ما عليه الفراء، لأن الواو في الآية ونظائرها واو الجمع فحركت بالحركة التي من جنسها لالتقاء الساكنين.
المعنى:
وهذه الآية الاشارة بها إلى من تقدم ذكره من المنافقين، وقال ابن عباس اشتروا الكفر بالايمان، وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وقال ابن مسعود: اخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا. وهذه الأقوال متقاربة المعاني. فان قيل كيف اشتروا هؤلاء القوم الضلالة بالهدى، وانما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم ايمان؟ فيقال فيهم باعوا ما كانوا عليه بضلالتهم التي استبدلوها منه، والمفهوم من الشراء اعتياض شيء يبذل شيء مكانه عوضاً منه، وهؤلاء ما كانوا قط على الهدى.
قلنا: من قال: بان الآية مخصوصة بمن كفر بعد إيمانه. فقد تخلص من هذا السؤال غير أن هذا لا يصح عندنا، من أن من آمن بالله لا يجوز أن يكفر. وان حملنا على اظهار الايمان، لم يكن في الآية توبيخ، ولا ذم والآية تتضمن التوبيخ على ما هم عليه؛ لأنها اشارة إلى ما تقدم وتلك صفات المنافقين. والجواب عن ذلك ان نقول: إن من ارتكب الضلالة وترك الهدى، جاز ان يقال ذلك فيه ويكون معناه: كان الهدى الذي تركه هو الثمن الذي جعله عوضاً عن الضلالة التي أخذها فيكون المشتري أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به كما قال الشاعر:

أخذت بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيدرا كما اشترى المسلم اذ تنصرا

ومنهم من قال: استحبوا الضلالة على الهدى انما قال ذلك لقوله تعالى { { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } فحمل هذه الآية عليه. ومن حملها على انهم اختاروا الضلالة على الهدى. فان ذلك مستعمل في اللغة يقولون اشتريت كذا على كذا. واشتريته يعنون اخترته. قال اعشى بني ثعلبة.

فقد اخرج الكاعب المسترا ة من خدرها واشيع القمارا

يعني: المختارة. قال ذو الرمة في معنى الاختيار:

يذب القصايا عن شراة كأنها جماهير تحت المدجنات الهواضب

وقال آخر:

إن الشراة روُفة الأموال وحزرة القلب خيار المال

والأول أقوى لقوله: { فما ربحت تجارتهم } فبين ان ذلك بمعنى الشراء والبيع الذي يتعارفه الناس. والربح ـ وان اضافه إلى التجارة ـ فالمراد به التاجر لأنهم يقولون ربح: بيعك وخسر بيعك وذلك يحسن في البيع والتجارة، لأن الربح والخسران يكون فيهما. ومتى التبس فلا يجوز إطلاقه. لا يقال: ربح عبدك اذا أراد ربح في عبده، لأن العبد نفسه قد يربح ويخسر. فلما أوهم لم يطلق ذلك فيه.
وقيل: إن المراد، فما ربحوا في تجارتهم. كما يقال: خاب سعيك: أي خبت في سعيك. وانما قال ذلك لأن المنافقين بشرائهم الضلالة خسروا ولم يربحوا، لأن الرابح من استبدل سلعة بما هو أرفع منها. فاما اذا استبدلها بما هو أدون منها فانما يقال خسر فلما كان المنافق استبدل بالهدى الضلالة وبالرشاد الخيبة عاجلا وفي الآخرة الثواب بالعقاب كان خاسراً غير رابح. وانما قال: { وما كانوا مهتدين }، لأنه يخسر التاجر ولا يربح ويكون على هدى. فأراد الله تعالى أن ينفي عنهم الربح والهداية فقال: { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } باستبدالهم الكفر بالايمان، واشترائهم النفاق بالتصديق، والاقرار بها. فان قيل: لم قال: فما ربحت تجارتهم في موضع ذهبت رؤوس اموالهم؟ قيل: لأنه قد ذكر الضلالة بالهدى، فكأنه قال: طلبوا الربح فما ربحوا، لما هلكوا. وفيه معنى ذهبت رؤوس اموالهم ويحتمل ان يكون ذلك على التقابل: وهو ان الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا، كما ان الذين اشتروا الهدى بالضلالة، ربحوا.