التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

اللغة:
إن قيل: كيف قال: { مثلهم }، أضاف المثل إلى الجمع، ثم شبهه بالواحد في قوله: { كمثل الذي استوقد ناراً }، هلاّ قال كمثل الذين استوقدوا نارا، يكني به عن جماعة من الرجال والنساء، والصبيان. والذي لا يعبر به إلا عن واحد مذكر ولو جاز ذلك، لجاز أن يقول القائل: كأن أجسام هؤلاء ـ ويشير إلى جماعة عظيمي القامة ـ نخلة. وقد علمنا أن ذلك لا يجوز؟ قلنا: في الموضع الذي جعله مثلا لأفعالهم جائز حسن وله نظائر كقوله:
{ { تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت } والمعنى: كدور أعين الذي يغشى عليه من الموت وكقوله { { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } ومعناه إلا كبعث نفس واحدة لأن التمثيل وقع للفعل بالفعل وأما في تمثيل الأجسام لجماعة من الرجال في تمام الخلق والطول بالواحد من النخيل فغير جائز، ولا في نظائره.
التفسير:
والفرق بينهما، أن معنى الآية، أن مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا من الاقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله، وبما جاء به قولا ـ وهم به مكذبون اعتقاداً ـ كمثل استضاءة الموقد، ثم اسقط ذكر الاستضاءة، واضاف المثل اليهم كما قال الشاعر وهو نابغة جعدة:

وكيف تواصل من اصبحت خلالته كأبي مرحب

أي كخلالة أبي مرحب. واسقط لدلالة الكلام عليه وأما إذا أراد تشبيه الجماعة من بني آدم وأعيان ذوي الصور والاجسام بشيء فالصواب أن يشبه الجماعة بالجماعة، والواحد بالواحد؛ لأن عين كل واحد منهم غير اعيان الأخر كما قال تعالى: { { كأنهم خشب مسندة } وقال: { { كأنهم أعجاز نخل خاوية } واراد جنس النخل ومثل قوله: ما افعالكم إلا كفعل الكلب ثم يحذف الفعل فيقال: ما افعالكم إلا كالكلب.
وقيل إن { الذي } بمعنى الذين كقوله:
{ { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } وقال الشاعر:

وان الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا ام خالد

وانما جاز ذلك، لأن الذين منهم يحتمل الوجوه المختلفة وضعف هذا الوجه من حيث ان في الآية الثانية وفي البيت دلالة على انه اريد به الجمع. وليس ذلك في الآية التي نحن فيها. وقيل فيه وجه ثالث وهو ان التقدير: مثلهم كمثل اتباع الذي استوقد ناراً وكما قال: { { واسأل القرية } وانما اراد اهلها. وفى الآية حذف (طفئت عليهم النار)
وقوله: { استوقد ناراً } معناه: اوقد ناراً كما يقال استجاب بمعنى اجاب قال الشاعر:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب

يريد: فلم يجبه
الوقَود: الحطب. والوقُود: مصدر وقدت النار وقودا. والاستيقاد: طلب الوقود. والايقاد: ايقاد النار. والتوقد: التوهج. والايقاد: التهاب النار. وزند ميقاد: سريع الوَرْي. وقلب وقاد: سريع الذكاء والنشاط. وكل شيء يتلألأ فهو يتقد. وفي الحجر نار لا تقد، لأنها لا تقبل الاحتراق والوقود: ظهور النار فيما يقبل الاحتراق.
وأصل النار النور. نار الشيء اذا ظهر نوره. وانار: اظهر نوره. واستنار: طلب اظهار نوره. والمنار: العلامات. والنار: السمت. وضاءت النار: ظهر ضوؤها وكل ما وضح فقد اضاء. واضاء القمر الدار: كقوله: اضاءت ما حوله. قال الشاعر:

اضاءت لهم احسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظمّ الدر ثاقبه

وقوله: { حوله } مأخوذ من الحول وهو الانقلاب. يقال حال الحول: اذا انقلب إلى أول السنة وأحال في كلامه اذا صرفه عن وجهه وحوّله عن المكان: أي نقله إلى مكان آخر: وتحول: تنقل واحتال عليه وحاوله طالبه بالانقلاب إلى مراده والحَول بالعين ـ بالفتح ـ والحول ـ بالكسر ـ الانقلاب عن الأمر ومنه قوله { { لا يبغون عنها حولا } والحوالة انقلاب الحق عن شخص إلى غيره والمحالة: البكرة. والحيلة: إيهام الأمر للخديعة. وحال بينه وبينه: مانع والحائل: الناقة التي انقطع حملها. والحائل: العير. وحوله الصبا: أي دايرته
ذهب به واذهبه: أي أهلكه، لا ذهابه إلى مكان يعرف، ومنه { ذهب الله بنورهم }. والمذهب: الطريقة في الأمر. والذّهبه: المطرة الجود. وقوله: { وتركهم في ظلمات }: أي أذهب النور بالظلمات. وتاركه متاركة وتتاركوا: تقابلوا في الترك. واترك اتراكا: اعتمد الترك. والتركة والتريكة: بيضة النعام المنفردة لتركها وحدها.
والظلمات: جمع الظلمة، واصلها انتقاص الحق من قوله: ولم تظلم منه شيئاً أي لم تنقص. واظلم الجواد احتمل انتقاص الحق لكرمه، ومن أشبه أباه فما ظلم أي ما انتقص حق الشبه. وظلمت الناقة: اذا نحرت من غير علة.
والظلم: ماء الأسنان من اللون لا من الريق. والظلم: الثلج. وقوله: { في ظلمات لا يبصرون } قال ابن عباس: إنهم بيصرون الحق ويقولون به حتى اذا خرجوا من ظلمة الكفر، أطفأوه بكفرهم به، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق، وروي عنه أيضاً أنه قال: هذا مثل ضربه الله تعالى للمنافقين، أنهم كانوا يعتزون بالاسلام، فيناكحهم المسلمون ويولدونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا، سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه، وتركهم في عذاب، وهو أحسن الوجوه. وقال أبو مسلم: معناه أنه لا نور لهم في الآخرة، وإن ما أظهروه في الدنيا يضمحل سريعاً كاضمحلال هذه اللمعة. وحال من يقع في الظلمة بعد الضياء اشقى في الحيرة، فكذلك حال المنافقين في حيرتهم بعد اهتدائهم، ويزيد استضرارهم على استضرار من طفئت ناره بسوء العاقبة. وروي عن ابن مسعود وغيره أن ذلك في قوم كانوا اظهروا الاسلام، ثم أظهروا النفاق، فكان النور الايمان، والظلمة نفاقهم. وقيل فيها وجوه تقارب ما قلناه
وتقدر بعد قوله: { فلما أضاءت ما حوله } (انطفأت) لدلالة الكلام عليها كما قال ابو ذؤيب الهذلي:

دعاني اليها القلب إني لأمره مطيع فما ادري ارشد طلابها؟

وتقديره، ارشد طلابها ام غي؟
وقال الفراء يقال ضاء القمر يضوء، واضاء يضيء، لغتان وهو الضوء والضوء ـ بفتح الضاد وضمها ـ وقد اظلم الليل، وظَلِم ـ بفتح الظاء وكسر اللام ـ وظلمات على وزن غرفات، وحجرات، وخطوات، فاهل الحجاز وبنو اسد يثقلون وتميم وبعض قيس يخففون والكسائي يثمّ الهاء الرفع بعد نصب اللام في قوله { حوله }، و { نجمع عظامه } في حال الوقف الباقون لا يشمون وهو احسن