التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
هذا ابتداء قصة، ولا بد فيه من واو العطف، بان يقال: وكتب، لأنه حذف اختصاراً وقد بينا فيما مضى: أن معنى كتب فرض. وها هنا معناه الحث والترغيب دون الفرض، والايجاب. وفي الآية دلالة على أن الوصية جائزة للوارث، لأنه قال الوالدين، والاقربين. والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرّين غير قاتلين. ومن خص الآية بالكافرين، فقد قال: قولا بلا دليل، ومن ادعى نسخ الآية فهو مدع لذلك، ولا يسلم له نسخها. وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء، فان ادعوا الاجماع على نسخها، كان ذلك دعوى باطلة ونحن نخالف في ذلك. وقد خالف في نسخ الآية طاووس، فانه خصها بالكافرين، لمكان الخبر ولم يحملها على النسخ. وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر: إن هذه الآية مجملة، وآية المواريث مفصلة، وليست نسخاً، فمع هذا الخلاف كيف يدعى الاجماع على نسخها. ومن ادعى نسخها، لقوله (ع): لا وصية لوارث، فقد أبعد، لأن هذا اولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به إجماعاً. وعندنا لا يجوز العمل به في تخصيص عموم القرآن. وادعاؤهم أن الأمة أجمعت على الخبر دعوى عارية من برهان. ولو سلمنا الخبر جاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث، لأنا لو خلينا وظاهر الآية لأجزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين والاقربين، لكن خص ما زاد على الثلث لمكان الاجماع.
فأما من قال: إن الآية منسوخة بآية الميراث فقوله بعيد عن الصواب. لأن الشيء إنما ينسخ غيره: إذا لم يمكن الجمع بينهما، فأما اذا لم يكن بينهما تناف ولا تضاد بل أمكن الجمع بينهما، فلا يجب حمل الآية على النسخ، ولا تنافي بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهم من الميراث، وبين الامر بالوصية لهم على جهة الخصوص، فلم يجب حمل الآية على النسخ. وقول من قال: حصول الاجماع على أن الوصية ليست فرضاً يدل على أنها منسوخة باطل، لأن إجماعهم على أنها لا تفيد الفرض، لا يمتنع من كونها مندوباً إليها ومرغبّاً فيها، ولأجل ذلك كانت الوصية للوالدين، والاقربين الذين ليسوا بوارث ثابتة بالآية ولم يقل أحد أنها منسوخة في خبرهم. ومن قال: إن النسخ من الآية ما يتعلق بالوالدين، وهو قول الحسن والضحاك، فقد قال قولا ينافي ما قاله مدعي نسخ الآية - على كل حال - ومع ذلك فليس الأمر على ما قال، لأنه لا دليل على دعواه. وقال طاووس: إذا وصى لغير ذي قرابة لم تجز وصيته. وقال الحسن: ليست الوصية إلا للأقربين وهذا الذي قالاه عندنا وإن كان غير صحيح، فهو مبطل قول من يدعي نسخ الآية. وإنما قلنا أنه ليس بصحيح، لأن الوصية لغير الوالدين، والأقربين عندنا جائزة. ولا خلاف بين الفقهاء في جوازها. والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث إجماعاً، والأفضل أن يكون بأقل من الثلث، لقوله (ع) والثلث كثير، وأحق من وصي له من كان أقرب الى الميت إذا كانوا فقراء - بلا خلاف - وإن كانوا أغنياء، فقال الحسن وعمرو بن عبيد: هم أحق بها. وقال ابن مسعود، وواصل ألأحقّ بها الأجوع، فالأجوع من القرابة.
وقوله تعالى: { إن ترك خيراً } يعنى مالا. واختلفوا في مقداره الذي يجب الوصية عنده، فقال الزهري: كلما وقع عليه اسم مال من قليل أو كثير. وقال ابراهيم النخعي: الف درهم الى خمسمائة. وروي عن علي (ع) أنه دخل على مولى لهم في مرضه، وله سبع مائه درهم أو ستمائة، فقال: ألا أوصي، فقال: لا إنما قال الله تعالى: { إن ترك خيراً } وليس لك كبير مال. وبهذا نأخذ، لأن قوله حجة عندنا.
الاعراب:
والوصية في الآية مرفوعة بأحد أمرين:
أحدهما - بـ (كتب)، لأنه لم يسم فاعله الثاني - أن يكون العامل فيه الابتداء. وخبره للوالدين، والجملة في موضع رفع على الحكاية بمنزلة قيل لكم: الوصية للوالدين. وقيل في إعراب (إذا) والعامل فيه قولان: أحدهما - كتب على معنى اذا حضر أحدكم الموت أي عند المرض. والوجه الآخر قال الزجاج، لأنه رغب في حال صحته أن يوصي، فتقديره كتب عليكم الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف في حال الصحة قائلين: اذا حضرنا الموت فلفلان كذا.
المعنى:
المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر ولا حيف فيه ولا جور والحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك. وليس معناه في الآية اذا حضره الموت أي إذا عاين الموت، لأنه في تلك الحال في شغل عن الوصية. لكن المعنى كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الانسان: إذا حضرني الموت أي اذا أنامت، فلفلان كذا.
والحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره وقيل ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقاداً وهو مصدر حقّ يحق حقاً وانتصب في الآية على المصدر وتقديره أحق حقاً وقد استعمل على وجه الصفة،, بمعنى ذي الحق، كما وصف بالعدل { على المتقين } معناه على الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه، وامتثال أوامره.