التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

النزول والاعراب:
ذكر جندب بن عبد الله، وعروة بن الزبير: أن هذه الآية نزلت في قصة عبد الله بن جحش وأصحابه لما قاتلوا في رجب، وقتل واقد التميمي بن الحضرمي، ظن قوم أنهم إن سلموا من الاثم فليس لهم أجره، فأنزل الله الآية فيهم - بالوعد -. وخبر { إن الذين آمنوا } الجملة التي هي قوله: { أولئك يرجون رحمة الله } أولئك ابتداء، ويرجون خبره، والجملة خبر (إنّ).
اللغة:
وقوله: { والذين هاجروا } فالهجر ضد الوصل، تقول: هجره يهجره هجراً، وهجراناً: اذا قطع مواصلته. والهجر: ما لا ينبغي من الكلام، تقول: هجر المريض يهجر هجراً، لأنه قال ما لا ينبغي أن يهجر من الكلام، وما زال ذلك هجيراه أي دأبه. والهاجرة: نصف النهار، وهجر القوم تهجيراً: اذا دخلوا في الهاجرة. وسمي المهاجرون لهجرتهم قومهم، وأرضهم. وأهجرت الجارية إهجاراً: إذا شبت شباباً حسناً، فهي مهجرة، ويقال ذلك للناقة، والنخلة. والهجار: حبل يشد به يد الفحل الى إحدى رجليه لأنه يهجر بذلك التصرف وأصل الباب الهجر: قطع المواصلة.
وقوله تعالى: { وجاهدوا } تقول: جهدت الرجل جهداً: إذا حملته على مشقة، وجاهدت العدوّ مجاهدة إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله. واجتهدت رأي: اذا حملت نفسك على المشقة في بلوغ صواب الرأي. والجهاد: الأرض الصلبة، وأصل الباب الجهد: الحمل على المشقة.
وقوله تعالى: { في سبيل الله } يعني قتال العدوّ، ويدخل في ذلك مجاهدة النفس.
وقوله { أولئك يرجون } فالرجاء الأمل، رجا يرجو رجاءً، وترجّى ترجياً، وارتجى ارتجاء، والرجا - مقصوراً - ناحية كل شيء، ويثنى رجوان وجمعه أرجاء، ومنه أرجاء البئر نواحيه، وقوله تعالى
{ { مالكم لا ترجون لله وقاراً } أي لا تخافون، قال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل

أي لم يخف، وذلك أن الرجاء للشيء الخوف من أن لا يكون، فلذلك سمي الخوف باسم الرجاء، وأصل الباب الأمل، وهو ضد اليأس.
المعنى:
وفي الآية دلالة على أن من مات مصراً على كبيرة لا يرجو رحمة الله لامرين:
أحدهما - أن ذلك دليل الخطاب، وذلك غير صحيح عند أكثر المحصلين.
والثاني - أنه قد يجتمع - عندنا - الايمان والهجرة والجهاد مع ارتكاب الكبيرة، فلا يخرج من هذه صورته عن تناول الآية له، وإنما ذكر المؤمنين برجاء الرحمة وإن كانت هي لهم لا محالة، لأنهم لا يدرون ما يكون منهم من الاقامة على طاعة الله أو الانقلاب عنها الى معصيته، لأنهم لا يدرون كيف تكون أحوالهم في المستقبل. وقال الجبائي: لأنهم لا يعلمون أنهم أدّوا كما يجب لله عليهم، لأن هذا العلم من الواجب، وهم لا يعلمونه إلا بعلم آخر، وكذلك سبيل العلم في أنهم لا يعلمونه إلا بعلم غيره، وهذا يوجب أنهم لا يعلمون إذاً كما يجب لله عليهم. وقال ابن الأخشاد: لانه لا يتفق للعبد التوبة من كل معصية، واستدل على ذلك باجماع الأمة على أنه ليس لاحد غير النبي (صلى الله عليه وسلم). ومن شهد له عليه، فلا.
ويمكن في الآية وجه آخر - على مذهبنا - وهو أن يكون رجاءهم لرخصة الله في غفران معاصيهم التي لم يتفق لهم التوبة عنها، واخترموا دونهم، فهم يرجون أن يسقط الله عقابها عنهم تفضلا. فأما الوجه الاول، فانما يصح على مذهب من يجوز أن يكفر المؤمن بعد إيمانه أو يفعل في المستقبل كبيرة يحبط ثواب إيمانه، وهذا لا يصح على مذهبنا في الموافات وما قاله الجبائي يلزم عليه وجوب ما لا نهاية له، لأنه إذا وجب عليه أن يعلم أنه فعل ما وجب عليه بعلم آخر، وذلك العلم مما وجب عليه أيضاً فيجب ذلك بعلم آخر، وفي ذلك التسلسل.
وإنما ضم الى صفة الايمان غيره في اعتبار الرجاء للرحمة ترغيباً في كل خصلة من تلك الخصال، لأنها من علامات الفلاح. فأما الوعد، فعلى كل واحدة منها إذا سلمت مما يبطلها. وقال الحسن: الرجاء، والطمع ها هنا على الايمان إذا سلم العمل. وذكر الجبائي: أن هذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يشهد لنفسه بالجنة، لأن الرجاء لا يكون إلا مع الشك، وقد بين الله تعالى: أن صفة المؤمن الرجاء للرحمة، لا القطع عليها لا محالة.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر في الأولى العذاب، ذكر بعدها آية الرحمة، ليكون العبد بين الخوف والرجاء إذ ذلك أو كد في الاستدعاء، وأحق بتدبير الحكماء.
وكتبت "رحمة الله" بالتاء في المصحف على الوصل، والأقيس بالهاء على الوقف، كما كتب
{ يدع الداع } و { يقضي بالحق } { { واضرب لهم مثلاً } كل ذلك على الوقف.