التفاسير

< >
عرض

ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٢٩
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ حمزة، وأبو جعفر { إلا أن يخافا } بضم الياء، والباقون بفتحها.
المعنى:
قيل في معنى قوله: { الطلاق مرتان } قولان:
أحدهما - ما قال ابن عباس، ومجاهد: إن معناه البيان عن تفصيل الطلاق في السنة، وهو أنه إذا أراد طلاقها فينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع، تطليقة واحدة، ثم يتركها حتى تخرج من العدة، أو حتى تحيض وتطهر، ثم يطلقها ثانية.
والثاني - ما قاله عروة، وقتادة: إن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة، مما لا يوجبها. وفي الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين إلا الفرقة البائنة. وقال الزجاج: في الآية حذف، لأن التقدير: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان، بدلالة قوله: { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }. والمرتان معناه: دفعتان.
اللغة:
وتقول مرَّ يمر مراً واستمر استمراراً، وأمرّه إمراراً وتمرّر تمرراً، ومرّره تمريراً. والمر: خلاف الحلو، ومنه المرارة، لأن فيها المرة. والمرة مزاج من أمزجة البدن. والمرة شدة الفتل، لاستمراره على إحكام. والمرير: الحبل المفتول. وفي التنزيل
{ ذو مرة فاستوى } أي ذو قوة وشدة. والمرّ الذي يعمل به في الطين وأصل الباب المرور: خلاف الوقوف.
وقوله { فإمساك بمعروف } رفع، ومعناه: فالواجب إمساك عليه، وكان يجوز النصب على فليمسك إمساكا، والامساك خلاف الاطلاق. تقول أمسك إمساكاً، وتمسك تمسكاً، وتماسك تماسكاً، وامتسك امتساكاً، ومسك تمسيكاً، واستمسك استمساكاً. وفلان ممسك: أي بخيل، وما بفلان مُسكة، ولا تمساك: إذا لم يكن فيه خير، لأنه منحل عن ضبط شيء من أموره. والمسك: الاهاب، لأنه يمسك البدن باحتوائه عليه. والمسك السواء، وسمي باستمساكه في اليد.
المعنى:
وقوله: { معروف } أي على وجه جميل سائغ في الشرع لا على وجه الاضرار بهن.
وقوله: { أو تسريح بإحسان } قيل فيه قولان:
أحدهما - أنها الطلقة الثالثة، وروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن رجلاً سأله، فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فأجابه: أو تسريح باحسان. وقال السدي، والضحاك: هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع).
اللغة:
والتسريح مأخوذ من السرح. وهو الانطلاق. تقول: سرح تسريحاً، وسرّح الماشية في الرعي سرحاً: إذا أطلقها ترعى: والسرحان: الذئب، لاتباعه السرح. والسرحة: الشجرة المرتفعة، لانطلاقها في جهة الطول. والمسرّح: المشط، لاطلاق الشعر به. وسرحت الماشية: إذا انطلقت في المرعى. وسرحت العبد إذا أعتقته. والسرح: الجراد، لانطلاقه في البلاد، والسريحة: القطعة من القد يشد بها نقال الابل، وكل شيء قددته مستطيلا، فهو سريح.
النزول:
وروي أن هذه الآية نزلت في ثابت بن قيس، وزوجته، وردت عليه حديقته، وطلقها باذن النبي (صلى الله عليه وسلم) رواه ابن جريج.
المعنى، والحجة، والاعراب:
وقوله: { إلا أن يخافا } معناه: إلا أن يظنا وقال الشاعر:

أتاني كلام عن نصيب بقوله وما خفت يا سلاّم أنك عائبي

يعني ما ظننت وأنشد الفراء:

إذا مت فادفني الى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلات فانني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

ومن ضم الياء، فتقديره: إلا أن يخافا على أن يقيما حدود الله. وقال أبو عبيدة { إلا أن يخافا } معناه: يوقنا؛ { فإن خفتم } معناه فان أيقنتم. وقال أبو علي الفارسي: خاف فعل يتعدى الى مفعول واحد، وذلك المفعول تارة يكون (أن) وصلتها، وأخرى غيرها، فأما تعديه الى غير (أن) فنحو قوله: { تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } }. وتعديته الى (أن) كقوله: { تخافون أن يتخطفكم الناس } وقوله: { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } فان عديته الى مفعول بأن ضعفت العين، أو اجتلبت حرف الجر كقولك: خوّفت ضعف الناس قولهم، وحرف الجر كقوله:

لو خافك الله عليه حرّمه

ومن ذلك قوله: { إنما الشيطان يخوف أولياءه } فيخوف قد حذف معه مفعول يقتضيه تقديره يخوف المؤمنين بأولياءه، فحذف المفعول، والجار، فوصل الفعل الى المفعول الثاني، ألا ترى أنه لا يخوف أولياءه على حدّ قولك خوّفت اللصّ، وإنما يخوف غيرهم مما لا استنصار لديهم، ومثله فاذا خفت عليه بمنزلة المحذوف من قوله: { أولياءه } فاذا كان تعدي هذا الفعل على ما وصفنا، فقول حمزة { إلا أن يخافا }، مستقيم لأنه لما بني الفعل للمفعول به اسند الفعل إليه، فلم يبق شيء يتعدى إليه، وأما (أن) من قوله: { ألاّ يقيما حدود الله }، فان الفعل يتعدى إليه بالجارّ، كما تعدى بالجارّ في قوله:

لو خافك الله عليه حرمه

وموضع أن في الآية جر بالجارّ المقدر، على قول الخليل، والكسائي. ونصب، في قول سيبويه، وأصحابه، لأنه لما حذف الجارّ، وصل الفعل الى المفعول الثاني، مثل استغفر الله ذنباً، وامرأتك الخير، فقوله مستقيم على ما رأيت. فان قال قائل: لو كان يخافا كما قد أخبره، لكان ينبغي أن يكون فان خيفا! قيل لا يلزمه هذا السؤال لأمرين:
أحدهما - أن يكون انصرف من الغيبة الى الخطاب، كما قال:
{ الحمد الله } ثم قال: { إياك نعبد } وقال: { ما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } ونظائر ذلك كثيرة.
والآخر - أن يكون الخطاب في قوله: { فإن خفتم } مصروفاً الى الولاة، والفقهاء الذين يقومون بامور الكافة، وجاز أن يكون الخطاب للكثرة في من جعله انصرافاً من الغيبة الى الخطاب، لأن ضمير الاثنين في { يخافا } ليس يراد به اثنان مخصوصان، وإنما يراد كل من كان هذا شأنه، فهذا حكمه.
وأما من قرأ بالفتح، فالمعنى أنه إذا خاف: من كل واحد من الزوج والمرأة { ألا يقيما حدود الله } حل الافتداء، ولا يحتاج في قولهم الى تقدير الجار، لأن الفصل يقتضي مفعولا يتعدى إليه، كما اقتضى في قوله:
{ فلا تخافوهم وخافون } } ولابدّ من تقدير الجار في قراءة من ضم الياء، لأن الفعل قد استند الى المفعول، فلا يتعدى الى المفعول الآخر إلا بالجار. قال أبو علي: فأما ما قاله الفراء في قول حمزة { إلا أن يخافا } من أنه اعتبر قراءة عبد الله { إلا أن يخافوا } فلم ينصبه، لأن الخوف في قول عبد الله واقع على (أن). وفي قراءة حمزة على الرجل، والمرأة، وحال الخوف التي معه.
المعنى:
{ ألا يقيما حدود الله } قال ابن عباس وعروة والضحاك: هو نشوز المرأة بغضا للزوج. وقال الشعبي هو نشوزها ونشوزه، والذي روي عن أبي عبد الله (ع) أنه إذا خاف أن تعصي الله فيه بارتكاب محضور، واخلال بواجب، وألا تطيعه فيما يجب عليها، فحينئذ يحل له أن يخلعها، ومثله روي عن الحسن. وقيل: إن الخوف من الاخلال بالحقوق التي تجب لكل واحد منهما على صاحبه، وحسن العشرة وجميل الصحبة.
فان قيل كيف قال: { فلا جناح عليهما }, وإنما الأباحة لأخذ الفدية! قيل لأنه لو خص بالذكر لأوهم أنها عاصية، وإن كانت الفدية له جائزة، فبين الاذن لهما لئلا يوهم أنه كالزنا المحرم على الآخذ، والمعطي. وذكر الفراء وجهين:
أحدهما - أنه قال: هو كقوله
{ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما هو من الملح دون العذب، فجاز الاتساع، وهذا هو الذي يليق بمذهبنا، لأن الذي يبيح الخلع - عندنا - هو ما لولاه، لكانت المرأة به عاصية.
والوجه الثاني - على قوله (صلى الله عليه وسلم): إن أظهرت الصدقة، فحسن وإن أسررت فحسن، وإنما على مزاوجة الكلام كقوله
{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } والثاني ليس بعد، وإن الفدية الجائرة في الخلع - فعندنا - إن كان البغض منها، وحدها وخاف منها العصيان، جاز أن يأخذ المهر فما زاد عليه، وإن كان منهما، فيكون دون المهر. ورووا عن علي (ع) فقط، ولم يفصلوا، وبه قال الربيع، وعطا، والزهري، والشعبي. وقال ابن عباس، وابن عمر، ورحا بن حوة، وابراهيم، ومجاهد: إنه يجوز الزيادة على المهر، والنقصان، ولم يفصلوا، والآية غير منسوخة عند أكثر المفسرين، ابن عباس والحسن، وجميع أهل العلم إلا بكر بن عبد الله، فانه زعم أنها منسوخة بقوله { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } الآية. والخلع بالفدية على ثلاثة أوجه:
أحدها - أن تكون المرأة عجوزاً وذميمة، فيضار بها ليفتدي بها، فهذا لا يحل له الفدي، لقوله
{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } الآية.
والثاني - أن يرى الرجل إمرأته على فاحشة، فيضاربها لتفتدي بخلعها، فهذا يجوز، وهو معنى قوله
{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } والوجه الثالث:
{ أن يخافا ألا يقيما حدود الله } لسوء خلق أو لقلة نفقة من غير ظلم، أو نحو ذلك فيجوز الفدية لهما جميعاً على ما فصلناه.
واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لايقع، لأنه قال: { مرتان } ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنها قوله: { أو تسريح بإحسان } أو قوله: { فإن طلقتها } ومن طلق بلفظ واحد لا يكون أتى بالمرتين، ولا بالثالثة كما أنه لو أوجب في اللعان أربع شهادات: ولو أتى بلفظ واحد لما وقع موقعه. وكما لو رمى تسع حصيات في الجمار دفعة واحدة، لم يكن مجزياً له، فكذلك الطلاق، ومتى ادعوا، في ذلك خبراً، فعليهم أن يذكروه ليتكلم عليه، فأما مسائل الخلع، وفروعه، وشروطه فقد ذكرناها في النهاية، والمبسوط، فلا معنى للتطويل بذكرها ها هنا لأن المطلوب ها هنا معاني القرآن، وتأويله دون مسائل الفقه.