التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٨
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ نافع واهل المدينة يغفر بضم الياء وفتح الفاء. الباقون بفتح النون، وكسر الفاء. وادغم الراء في اللام وما جاء منه. والآيه معطوفة على ما تقدم. فكأنه قال واذكروا اذ قلنا. ادخلوا والدخول والولوج والاقتحام نظائر والفرق بين الدخول والاقتحام ان الاقتحام دخول على صعوبة.
اللغة:
ونقيض الدخول: الخروج تقول: دخل يدخل دخولا. وادخله ادخالا. وتداخل تداخلا، واستدخل استدخالا، وداخله مداخلة. ويقال: في امره دخل أي فساد. دخل امره يدخل دخلا: أي فسد. ودخلت الدار وغيرها دخولا واوردت ابلي دخالا إذا اوردتها فادخلت بين كل بعيرين بعيراً ضعيفاً بعد ما ابتعر أو تشرب دون ريها. وفلان دخيل بني فلان: اذا كان من غيرهم. واطلعت فلانا على دخلة امري: اذا بثثته مكتومك. والدخل طائر صغير. وفلان حسن المدخل، أو قبيح المدخل: أي المذهب في الامور. وكل لحمة على عصب فهي دخلة. قال صاحب العين: فلان مدخول اذا كان في عقله دخل، أو في حسبه. والمدخول: المهزول الداخل في جوفه الهزال. والدخلة: بطانة الامير. يقال: فلان خبث الداخلة. وادخل في عار ويدخل فيه ونحو ذلك يصف شدة الدخول. ودخيل الرجل: الذي يداخله في اموره كلها فهو له دخيل. دخال والدخال: مداخلة المفاصل بعضها في بعض. والدخولة معروفة والدخل: صغار الطير امثال العصافير مأواها الغيران، وبطون الاودية تحت الشجر الملتف وجمعه دخاخيل. والانثى دخلة. واصل الباب: الدخول قال الرماني في حد الدخول: الانتقال إلى محيط. وقد يقال: دخل في الامر: كما يقال دخل في الدار تشبيهاً ومجازاً.
وقوله: { هذه القرية } إشارة إلى بيت المقدس ـ على قول قتادة، والربيع ابن أنس وقال السدي: هي قرية بيت المقدس: وقال ابن زيد: إنها أريحا قريب من بيت المقدس.
اللغة:
والقرية والبلدة والمدينه نظائر. قال ابو العباس: اصله الجمع: ومنه المقراة: الحوض الذي تسقى فيه الابل. سمي مقراة، لجمع الماء فيه. والمقراة: الجفنة التي يعد فيها الطعام للاضياف قال الشاعر:

عظام المقاري جارهم لا يفزّع

ومنه قريت الضيف. ومنه قريت الماء في الحوض. ومنه قريت الشاة تقري وشاة قارية: إذا كانت تجمع الجرة في شدقها. وهو عيب عندهم شديد وكل ما قري فهو مقري: مثل المرقد كل ما رقدت فيه. والقري: المسيل الذي يحمل الماء إلى الروضة. وجمعه: قريان: كقضيب وقضبان قال الشاعر:

ماء قريّ حده قري

قال ابن دريد: قريت الضيف أفريه قرى. وقريت الماء في الحوض أقريه قريا. وقرى البعير: جرته في شدقه قريا. والقرية: اشتقاقها من قرى البعير جرته: أى جمعها. والجمع قرى ـ على غير قياس ـ. وقال قوم من اهل اليمن: قرية: وقال صاحب العين: القرية والقيرية ـ لغتان ـ تقول: ما زلت استقري هذه الأرض قرية قرية. والكسر لغة عانية. ومن هناك اجتمعوا على جمعها على القرى، حيث اختلفوا فحملوها على لغة من قال: كِسوة وكُسوة. والنسبة اليها قروي. وام القرى: مكة وقوله: { { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } يعني بها: الكور والأمصار والمدائن والقرى: الظهر من كل شيء، حتى الآكام وغيرها. والجمع الاقراء. والقرى: الاحسان إلى الضيف. تقول: اقرى يقري الضيف قرىً: اذا اضافه ضيافة، وانزله نزالة. والقرى جيء الماء في الحوض. والمدة تقرى في الجرح: أي تجتمع.
وقوله: { وادخلوا الباب }
المعنى:
أي الباب الذي امرو بدخلولها. وقال مجاهد والسدي: هو باب حطة من بيت المقدس. وهو الباب الثامن. وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى. وقال قوم: باب القرية التي أمروا بدخولها. قال أبو علي: قول من قال: إنه باب القرية، لأنه لم يدخلوا القرية في حياة موسى، لأنه قال: { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم }. والعطف بالفاء يدل على أن هذا التبديل منهم كان في أثر الأمر فدل ذلك على أنه كان في حياة موسى.
ومعنى قوله: { سجداً }
قال ابن عباس: ركعاً. وهو شدة الانحناء. ومنه السجد من النساء: الفاترات الأعين. وقال الأعشى:

ولهوي إلى حور المدامع سجد

وقال الآخر:

ترى الأكم منه سجداً للحوافر

وقال غيره: ادخلوا خاضعين متواضعين. قال اعشى قيس:

تراوح من صلوات المليـ ـك طوراً سجوداً وطوراً جؤاراً

وقوله: { حطة }
المعنى:
قال الحسن، وقتادة واكثر أهل العلم: معناه حُط عنا خطايانا. وروي عن ابن عباس أنه قال: أمروا أن يستغفروا. وروي عنه ايضاً أنه قال: امروا أن يقولوا: هذا الأمر حق: كما قيل لكم. وقال عكرمة: امروا أن يقولوا لا إله إلاّ الله. وكل هذه الأقوال محط الذنوب فيترحم لحطة عنها.
اللغة:
وحطة مصدر مثل رّدة وجدّة من رددت وجددت. قال صاحب العين: الحط: وضع الأحمال عن الدواب تقول: حططت عنها أحط حطا. وانحط انحطاطا. والحط والوضع والخفض نظائر. والحط: الحدر من العلو: كقول امرىء القيس:

كجلمود صخرٍ حطه السيل من علِ

ويقال للنجيبة السريعة: حطت في سيرها وانحطت. وتقول حط الله وزرك الذي انقض ظهرك. وقال الشاعر:

واحطط إلهي ـ بفضل منك ـ أوزاري

والحطاطة: بثرة تخرج في الوجه تقبح اللون ولا تقرح. وجارية محطوطة المتنين: ممدودة حسنة والحط: حط الاديم بالمحط. وهي خشبة يصقل بها الأديم او ينقش. وأصل الباب: الحط: وهو الحدر من علو. وارتفعت { حطة } في الآية على قول الزجاج ـ على تقدير مساءلتنا حطة، وقال غيره: دخولنا الباب سجداً: حطة لذنوبنا كقوله: { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا: معذرة } يعني موعظتنا بعذرة إلى ربكم. ويجوز النصب في العربية على معنى حط عنا ذنوبنا حطة، كقولك: سمعا وطاعة يعني اسمع سمعاً واطيع طاعة، كقولك: معاذ الله. يعني نعوذ بالله وهو أقوى لأنه دعاء.
وقوله: { نغفر لكم }
اللغة:
والغفران والعفو، والصفح نظائر. يقال: غفر الله غفرانا. واستغفر استغفارا واغتفر اغتفاراً. قال أبو العباس: غفر الله لزيد بمعنى: ستر غطى له على ذنوبه. والغفران انما هو التغطية. يقال للسحابة فوق السحاب: الغفارة. وثوب ذو غفر: اذا كان له زئير يستر قبحه. ويقال: المغفر، لتغطية العنق. ويقال غفرت الشيء: إذ واريته. والمغفرة والغفيرة بمعنى [واحد]. والمغفرة: منزل من منازل القمر. يسمى [بذلك] لخفائه. وقال الزجاج: الغفر: التغطية. وكل ما تفرع من هذا الباب فهذا معناه. وقولهم: اللهم اغفر لنا. تأويله اللهم غط علينا ذنوبنا والله الغفور والغفار والمغفر ما يغطى به الرأس من الحديد وغيره. وكذلك الغفارة وهي خرقة تلف على سية القوس: أي طرفها. وغفارة: اسم رأس جبل. والمغفورة والمغفارة. صمغ العرفط وقد اغفر الشجر: إذا ظهر ذلك فيه. وفي الحديث: أن النبي "صلى الله عليه وسلم" دخل على عائشة. فقالت: يا رسول الله. أكلت مغافير؟ تعني هذا الصمغ. ومنهم من يقول: مغاثير: كما قيل جدث، وجدف. والغفر: شعر صغار دون الكبار. وريش دون الريش الكبار، لأنه هو الذي يغطي الجلد. والغفر: النكس من المريض. يقال: صلح فلان من مرضه ثم غفر أي نكس. ومنه قول ضرار. ـ وقيل إنه لحميل ـ:

خليلي إن الدار غفر لذي الهوى كما يغفر المحموم او صاحب الكلم

ومعناه: أن المحب إذا سلا عن حبيبه، ثم رأى داره جدد عليه حبه. فكأنه مريض نكس. وانما قيل النكس، لأنه يغطي على العافية. والغفر: شعر يكون في اللحيين. وقد غفر فلان، وقد غفرت المرأة: إذا انبت لها ذلك الشعر. ومتاع البيت يقال له: الغفر، لأنه يغطي على الخلل. والغفر: الحوالق. ويقال جاء والجماء الغفير. وجاءوا جماً غفيرا. وجاءوا جماء الغفير: اي مجتمعين جمعاً يغطي الأرض. والغفر: ولد الأروى: وهي انثى الوعل، لأنها تأوي الجبال، فتستر عن الناس. يقال لأنثى الوعل، إذا كان معها ولدها: مغفر. كما يقال: لكل ذات طفل: مطفل. ويقال: غفرت الأمر تغفرة: إذا أصلحته بما ينبغي ان يصلح به. والمعنى: أصلحته بما غطى على جميع فساده. والغفر: زئير الثوب. وثوب ذو غفر. وغفرت المتاع اذا جعلته في وعاء. وكل شيء غطيته، فقد سترته. ويقال إصبغ ثوبك فانه أغفر للوسخ: أي استر له. وأصل الباب: التغطية وحد المغفرة: ستر الخطيئة برفع العقوبة
والخطيئة، والزلة، والمعصية نظائر. يقال: خطأ خطأ. واخطأ إخطاءً. واستخطأه استخطاء. وخطأه تخطئة. وتخاطى تخاطياً قال ابن دريد: الخطأ مقصور مهموز. يقال خطأ الشيء خطأ: اذا لم يرده واصابه. واخطأ يخطىء اخطاء: اذا اراده فلم يصبه. والأول خاطىء والثاني مخطىء به. والخطيئه تهمز. قال صاحب العين: الخطأ: ما لم يتعمد، ولكن يخطىء اخطاء وخطاءة وتخطئة. واصل الباب: الخطأ ومثله الزلل. والخاطىء الذي قد زل عن الشيء في قصده ـ وان اتفق له ان يصيبه من غير أن يقصده، ولذلك لا يكون الخاطىء في الدين إلا عاصياً، لأنه لم يقصد الحق وأما المخطىء فانما زل عن قصده. ولذلك يكون المخطىء من طريق الاجتهاد مصيباً لأنه قصد الحق واجتهد في اصابته فصار الى غيره. وحد الخطيئة: العدول عن الغرض المجرد. وخطايا وزنها: فعائل. وتقديره خطائي، فقلبت الهمزة الأخيرة ياءً على حركة ما قبلها، فصارت خطايي، ثم فعل بها ما فعل بمداري، حتى قيل مدارى فصارت: خطاءى. فاستثقل همز بين ألفين، لأنه بمنزلة ثلاث ألفات، فقلبت الهمزة ياء. وانما أعلت هذا الاعلال، لأن الهمزة التي بعد الألف عرضت في جميع فعل القياس. تقول: في جمع مرآة مراءى، فلا تعل. والخليل يقول: وزنه فعالى على قلب الهمزة.
القراءة:
من اختار النون من القراء، قال: لأنه مطابق لما تقدم من قوله: { وظللنا } و "قلنا". وانما اتفق القراء على خطاياكم ها هنا، واختلفوا في الأعراف وسورة نوح، لأن اللتين في الأعراف ونوح كتبتا في المصحف بالياء بعد ألف، والتي في البقرة بألف.
وقوله: { وسنزيد المحسنين }.
فالزيادة التي وعدها الله المحسنين، هي تفضل يعطيه الله المحسنين، يستحقونها بوعده اياهم. وهي زيادة على الثواب الذي يستحقونه بطاعته (تعالى).
اللغة:
والفرق بين احسن اليه واحسن في فعله: ان أحسن اليه لا يكون إلا بالنفع له. واحسن في فعله ليس كذلك. ألا ترى انه لا يقال: أحسن الله اليه إلى أهل النار بتعذيبهم. ويقال: أحسن في تعذيبهم بالنار: يعني أحسن في فعله وفي تدبيره.
والاحسان، والانعام، والافضال نظائر. وضد الاحسان: الاساءة: يقال حسن حسنا: واحسن إحسانا. واستحسن استحسانا. وتحاسنوا تحاسنا. وحسنه تحسينا. وحاسنه محاسنة. والمحسن والجمع محاسن: ـ المواضع الحسنة في البدن. ويقال: رجل كثير المحاسن. وامرأة كثيرة المحاسن. وامرأة حسناء. ولا تقول: رجل أحسن، وتقول: رجل حسان وامرأة حسانة. وهو المحسن جيدا. والمحاسن في الاعمال: ضد المساوىء. تقول: أحسن فانك الحسان. والحسنى: الجنة، لقوله: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }. والحسنى: ضد السوء. والحسن. ضد القبيح والحسان: جمع حسن الحقوها بضدها، فقالوا: قباح وحسان. كما قالوا: عجاف وسمان. واصل الباب: الحسن. وهو على ضربين: حسن في النظر، وحسن في الفعل وكذلك القبح. وحد الحسن من طريق الحكمة: هو الفعل الذي يدعو اليه العقل. وحد القبح: الذي يزجر عنه العقل. وحد الاحسان: هو النفع الحسن. وحد الاساءة: هو الضرر القبيح هذا لا يصح الا على قول من يقول: إن الانسان يكون محسنا إلى نفسه ومسيئا اليها. ومن لا يقول فذلك يريد فيه الواصل إلى الغير مع قصده إلى ذلك والاقوى في حد الحسن أن تقول: هو الفعل الذي اذا فعله العالم به على وجه، لم يستحق الذم فانه لا ينتقض بشيء.
وقوله: { وكلوا منها حيث شئتم رغدا } يعني من هذه القرية، حيث شئتم رغداً أي واسعاً بغير حساب. قد بينا معناه فيما مضى واختلاف الناس فيه.