التفاسير

< >
عرض

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى ان البقرة التي امرتكم بذبحها، لا ذلول أي لم يذللها العمل باثارة الارض باظلافها. ولا تسقي الحرث. معناه: ولا يستقى عليها الماء، فيسقى الزرع. كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب والعمل. تقول دابة ذلول بين الذل ـ بكسر الذال - وفي مثله من بني آدم رجل ذليل بين الذل والمذلة. قال الزجاج: يحتمل أن يكون اراد ليست بذلول وهي تثير الارض. ويحتمل: انها ليست ذلولة، ولا مثيرة الارض قيل: إنها كانت وحشية في قول الحسن مسلمة. معناه: من السلامة. يقال منها سلمت تسلم، فهي مسلمة من الشية.
لاشية فيها لا بياض فيها، ولا سواد. وقال قتادة مسلمة من العيوب: وبه قال الربيع. وقال ابن جريج: لا عوان فيها. قال المؤرخ: لاشية فيها: أي لا وضح فيها بلغة اردشنوه والذي قال اهل اللغة { لاشية فيها }: اي لا لون يخالف لون جلدها واصله: وشى الثوب واصله تحسين عيوب الشيء، يكون فيه بضروب مختلفة من الوان سداه، ولحمته يقال منه: وشيت الثوب: اشيه شية ووشيا. ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان، أو غيره واش لكذبه عليه عنده. وتحسينه كذبه عنده بالاباطيل يقال: وشيت به وشاية. قال كعب بن زهير:

يسعى للوشاة بجنبيها وقولهم انك يابن ابي سلمى لمقتول

يعني: انهم يتقولون الاباطيل، ويخبرونه انه إن الحق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) قتله وقال بعض اهل اللغة ان الوشي: العلامة واصله: شية من وشيت، لكن لما اسقطت منها الواو وابدلت مكانها الهاء في اخرها: كما قالوا: وزنته زنة ووعدته عدة. وكذلك وشيته شية.
وقالوا: { الآن جئت بالحق } موصولة الهمزة واذا ابتدأت، قطعت الالف الاولى، لأن الف الوصل إذا ابتدىء بها قطعت. قال الفراء: والاصل الاوان. فحذفت الواو. والالف واللام دخلتا في آن لانهما ينوبان عن الاشارة. المعنى انت إلى هذا الوقت تفعل هذا. فلم تعرب الآن كما لم تعرب هذا. ومن العرب من يقول { قالوا الآن جئت بالحق } ويذهب الوصل ويفتح اللام، ويحذف الهمزة التي بعد اللام. ويثبت الواو في (قالوا) ساكناً، لأنه انما كان يذهبه لسكون اللام. واللام قد تحركت، لأنه حوّل عليها حركة الهمزة قال الشاعر:

وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة فبح لان منها بالذي انت بايح

المعنى:
ومعنى قوله: { الآن جئت بالحق } يحتمل امرين:
احدهما ـ الان بينت الحق. وهو قول قتادة. وهذا يدل على انه كان فيهم من يشك في ان موسى (ع) ما بيّن الحق. وقال عبد الرحمان: يريد انه حين بينها لهم، قالوا هذه بقرة فلان. الآن جئت بالحق وهو قول من جوزانه قبل ذلك لم يجىء بالحق على التفصيل ـ وإن تى به على وجه الجملة ـ وقوله: { فذبحوها وما كادوا يفعلون } يحتمل امرين:
احدهما ـ كادوا لا يفعلون اصلا، لغلاء ثمنها، لأنه حكي عن ابن عباس ومحمد ابن كعب انهم اشتروها بملء جلدها ذهباً من مال المقتول. وقيل بوزنها عشر مرات.
والثاني ـ ما قال عكرمة ووهب كادوا ألا يفعلوا خوفاً من الفضيحة على انفسهم في معرفة القاتل منهم، قال عكرمة ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.
اللغة:
ومعنى كاد: هم ولم يفعل. ولا يقال كاد أن يفعل. وانما يقال كاد يفعل، قال الله ما كادوا يفعلون قال الشاعر:

قد كاد من طول البلى ان يمصحا

يقال مصح الشيء اذا فني وذهب. يمصح مصوحاً. وانشد الاصمعي:

كادت النفس ان تفيض عليه اذ ثوى حشو ريطة وبرود

ولا يجىء منه إلا فعل يفعل وتثنيتها. وقال بعضهم: قد جاءت بمعنى إيقاع الفعل لا بمعنى الهم والقرب من ايقاعه، وانشد قول الاعشى:

قد كاد يسمو إلى الجرباء وارتفعا

الجرباء: السماء: أي سما وارتفع وقال ذو الرمة:

لو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه ميّ سافراً كاد يبرق

أي لو تعرضت لعينيه أي دهش وتحير. وروي عن ابي عبد الله السلمي انه قرأ لا ذلول بفتح اللام غير منون وذلك لا يجوز لأنه ليس المراد النفي وانما المراد بها بقرة غير ذلول وعندنا انه يجوز في البقرة غير الذبح. فان نحر مختاراً لم يجز اكله وفيه خلاف، ذكرناه في خلاف الفقهاء.
قد استدل اصحابنا بهذه الآيات على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. فان قالوا ان الله امرهم بذبح بقرة هذة الصفات كلها لها، ولم يبين ذلك في اول الخطاب حتى سألوا عنه وراجعوا فيه، فبين حينئذ المراد لهم شيئاً بعد شيء. وهذا يدل على جواز تأخير البيان. فان قيل ولم زعمتم ان الصفات المذكورة في البقرة الأولى التي امروا بذبحها، وما الذي تنكرون انهم امروا بذبح البقرة أي بقرة كانت فلما راجعوا تغيرت المصلحة فأمروا بذبح بقرة اخرى هي لا فارض ولا بكر فلما راجعوا تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح بقرة صفراء فاقع لونها فلما راجعوا تغيرت المصلحة فأمروا بذبح بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها. وانما يصح لكم لو كانت الصفات المذكورة كلها مرادة في البقرة الاولى.
قلنا هذا باطل، لأن الكناية في قوله: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } لا يجوز ان تكون كناية إلا عن البقرة التي تقدم ذكرها وامروا بذبحها، لأنه لم يجر في الكلام ما يجوز ان تكون هذه الكناية عنه إلا البقرة، ويجري ذلك مجرى ان يقول واحد لغلامه: اعطني تفاحة فيقول الغلام ما هي؟ بينها فلا يصرف واحد من العقلاء هذه الكناية إلا إلى التفاحة المأمور باعطائه اياها. ثم يقال بعد ذلك انها بقرة لا فارض ولا بكر وقد علمنا ان الهاء في قوله: انه يقول كناية عنه تعالى، لأنه لم يتقدم ما يجوز ان يكون كناية عنه إلا اسمه تعالى. وكذا يجب ان يكون قوله انها كناية عن البقرة المتقدم ذكرها وإلا فما الفرق بين الامرين؟ وكذلك الكلام في الكناية الثانية والثالثة سواء. ولا خلاف بين المفسرين ان الكناية في الآية من اولها إلى آخرها: كناية عن البقرة المأمور بها في الأول.
وقالت المعتزلة: انها كناية عن البقرة التي تعلق التكليف المستقبل بها.
ولا خلاف بين المفسرين ان جميع الصفات المذكورات للبقرة اعوز اجتماعها للقوم حتى توصلوا إلى اجتماع بقرة لها هذه الصفات كلها بملء جلدها ذهباً. وروي اكثر من ذلك. ولو كان الامر على ما قاله المخالف لوجب ان لا يعتبروا فيما يبتاعونه إلا الصفات الاخيرة دون ما تقدمها، وتلغي الصفات المتقدمة اجماعهم على ان الصفات كلها معتبرة. دليل على ان الله تعالى أخر البيان. فان قيل لم عنفوا على تأخيرهم امتثال الامر الأول مع ان المراد بالامر الأول تأخر؟ ولم قال فذبحوها وما كادوا يفعلون؟ قلنا ما عنفوا بتأخير امتثال الأمر الأول: وليس في الظاهر ما يدل عليه بل كان البيان يأتي شيئاً بعد شيء كما طلبوه من غير تعنيف فلا قول يدل على انهم بذلك عصاة. فاما قوله: في اخر القصة: { فذبحوها وما كادوا يفعلون }.
فانما يدل على انهم كادوا يفرطون في اخر القصة، وعند تكامل البيان. ولا يدل على انهم فرطوا في اول القصة.
ويقوي ذلك قوله تعالى بعد جمع الاوصاف: { الآن جئت بالحق } اي جئت به على جهة التفصيل. وان كان جاءهم بالحق مجملاً. وهذا واضح بحمد الله، وقد استوفينا الكلام في هذه الآية وغيرها في العدة في اصول الفقه ما لا مزيد عليه.