التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ اهل الكوفة تظاهرون ها هنا، وفي التحريم بتخفيف الظاء. الباقون بالتشديد فيهما. وقرأ حمزة "أسرى" بفتح الهمزة، وسكون السين بغير الف بعدها. وقرأ اهل المدينة، وعاصم، والكسائي ويعقوب (تفادوهم) بضم التاء وبألف.
وقوله { ثم أنتم هؤلاء } يحتمل وجهين:
احدهما ـ ان يكون اريد به ثم انتم يا هؤلاء فترك يا استغناء، لدلالة الكلام عليه: كما قال
{ { يوسف أعرض عن هذا } ومعنى الكلام ثم انتم يا معشر يهود بني اسرائيل بعد اقراركم بالميثاق الذي اخذته عليكم: ألاّ تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا انفسكم من دياركم، وبعد شهادتكم على انفسكم بذلك انه حق لازم لكم الوفاء به تقتلون انفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونين عليهم في اخراجكم اياهم بالاثم، والعدوان.
والتعاون هو التظاهر، وانما قيل للتعاون: التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو تفاعل من الظهر. هو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض. قال الشاعر:

تظاهرتم اشباه نيب تجمعت على واحد لازلتم قرن واحد

ومنه قوله تعالى: { { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه } وقوله { { والملائكة بعد ذلك ظهير } وقوله: { { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقوله: { { سحران تظاهرا } وقوله: { { وكان الكافر على ربه ظهيرا } ويقال: اتخذ معك نفراً ونفرين ظهيرين يعني عدة، والوجه الآخر أن يكون معناه: ثم انتم القوم تقتلون انفسكم فيرجع إلى الخبر عن { أنتم } وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم { هؤلاء } كما تقول العرب: انا ذا أقوم، وانا ذا أجلس. ولو قيل أنا هذا يجلس لكان صحيحاً. وكذلك انت ذاك تقوم، وقال بعض النحويين: ان هؤلاء [في] قوله: { ثم أنتم هؤلاء } تنبيه، وتوكيد لانتم. وزعم أن انتم: وان كان كناية عن اسماء جميع المخاطبين فانما جازان يؤكد بهؤلاء. وأولاء يكنى بها عن المخاطبين كما قال خُفاف بن ندبة:

اقول له والرمح يأطر متنه تبيّن خفافا انني انا ذلكا

يريد انا هو، وكما قال { { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } }. والاثم قيل معناه: هو ما تنفر منه النفس ولم يطمئن اليه القلب. ومنه قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لنواس بن سمعان، حين سأله عن البر والاثم، فقال (صلى الله عليه وسلم): البر ما اطمأنت اليه نفسك والاثم ما حك في صدرك. وقال قوم: معنى الاثم ما يستحق عليه الذم، وهو الاصح.
والعدوان مجاوزة الحق. وقال قوم: هو الافراط في الظلم. واسرى جمع اسير واسارى جمع اسرى. كما قالوا: مريض ومرضى وجريح وجرحى وكسير وكسرى. هذا قول المفضل بن سلمة قال ابو عمرو بن العلاء: الاسارى هم الذين في الوثاق والاسرى الذين في اليد. وان لم يكونوا في الوثاق.
ومعنى تفادوهم أو تفدوهم: طلب الفدية من الاسير الذي في ايديهم من اعدائهم قال الشاعر:

قفي فادي اسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعا

وكان هذا محرما عليهم ـ وان كان مباحا لنا ـ فذكر الله تعالى توبيخا لهم في فعل ما حرم عليهم. وقال آخرون: انه افتداء الاسير منهم اذا اسره اعداؤهم. وهذا مدح لهم ذكره من بعد ذمهم انهم خالفوه في سفك الدماء، وتابعوه في افتداء الاسرى استشهاداً على هذا الباطل بقوله: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } وقال قوم: الفرق بين تفدوهم وتفادوهم، ان تفدوهم هو افتكاك بمال وتفادوهم هو افتكاك الاسرى بالأسرى. واختلفوا فيمن عنى بهذه الآية فروى عكرمه عن ابن عباس انه قال: { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } إلى قوله: والعدوان أي اهل الشرك، حتى يسفكوا دماءهم معهم، ويخرجوهم من ديارهم معهم قال: انبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء اسراهم. وكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وانهم حلفاء الخزرج. وحلفاء النضير وقريظة، وانهم حلفاء الاوس. وكانوا اذا كانت بين الاوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الاوس، يظاهر كل فريق حلفاءه على اخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبايديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم ولهم. والاوس والخزرج اهل شرك يعبدون الاوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا، ولا قيامة ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، فاذا وضعت الحرب اوزارها افتدوا اسراهم تصديقاً لما في التوارة، واخذا به يفتدي بنو قينقاع من كان (من) اسراهم في ايدي الاوس، ويفتدي بنو النضير وقريظة ما كان في ايدي الخزرج. ويطلبون ما اصابوا من الدماء، وما قتلوا من قتلوا منهم، فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى حين انبأهم بذلك: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }؟ أي تفادونهم بحكم التوراة وفي حكم التوراة ان لا يقتل ويخرج من داره ويظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الاوثان من دونه ـ ابتغاء عرض الدنيا ـ ففي ذلك من فعلهم مع الاوس والخزرج نزلت هذه القصة. وذكر فيه اقوال اخر تزيد وتنقص لا فائدة في ذكرها، معناها متقارب لما اوردناه.
وقوله { يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } القصد بذلك توبيخهم وتعنيفهم على سوء افعالهم. فقال: ثم أنتم بعد اقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: "لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم" تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضاً. وانتم مع قتلكم من تقتلون منكم. اذا وجدتم اسيراً منكم في ايدي غيركم من اعدائكم تفدونهم. ويخرج بعضكم بعضاً من ديارهم، وقتلكم اياهم واخراجكم اياهم من ديارهم حرام عليكم كما حرام عليكم تركهم اسرى في ايدي عدوكم. فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم. وتستجيزون قتلهم وهما جميعاً في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء، لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم واخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم اسرى في ايدي عدوهم. { أفتؤمنون ببعض الكتاب } الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي، واخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي، فتصدقون به فتفادون اسراكم من ايدي عدوكم، وتكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله، من اهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم وقد علمتم ان في الكفر منكم ببعضه نقضاً منكم في عهدي وميثاقي.
وقوله: { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } فالخزي: الذل، والصغار يقال خزي الرجل يخزى خزياً. { في الحياة الدنيا } يعني في عاجل الدنيا قبل الآخرة. ثم اختلفوا في الخزي الذي خزاهم الله بما سلف منهم من المعصية فقال بعضهم: ذلك حكم الله الذي انزله على نبيه (صلى الله عليه وسلم) من اخذ القاتل بما قتل، والقود به قصاصاً، والانتقام من الظالم لمظلوم.
وقال آخر: بل ذلك هو الجزية منهم ـ ما اقاموا على دينهم ـ ذلة لهم وصغاراً
وقال آخرون: الخزي الذي خزوا به في الدنيا إخراج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بني النضير من ديارهم لأول الحشر. وقيل: مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم. وكان ذلك خزياً في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم ومعنى قوله: { يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } أي اسوء العذاب، يعني بعد الخزي الذي يحل بهم في الدنيا يردهم الله إلى اشد العذاب ـ الذى اعده الله لاعدائه.
وقال بعضهم: يردهم يوم القيامة إلى اشد العذاب، يعني اشد من عذاب الدنيا ـ والاول اقوى: انه من أشد العذاب يعني اشد جنس العذاب. وذلك يقتضي العموم ولا يخص إلا بدليل.
وقوله: { وما الله بغافل عما تعملون }. منهم من قرأ بالياء، رده إلى من أخبر عنهم.
ومن قرأ بالتاء، رده إلى المواجهين بالخطاب. والياء اقوى، لقوله: { فما جزاء من يفعل ذلك }.
وقوله: { ويوم القيامة يردون } فالرد إلى هذا أقرب من قوله: { أفتؤمنون ببعض الكتاب } فاتباع الأقرب أولى من إلحاقه بالاول. والكل حسن. والمعنى وما الله بساهٍ عن اعمالهم الخبيثة بل هو محص لها وحافظ لها حتى يجازي عليها. فان قيل: ظاهر الآية يقتضي ان يصح الايمان ببعض الاشياء، وان كفروا بالبعض الآخر، وذلك مناف لمذهبكم في الارجاء والموافاة. لأن المعنى في ذلك إظهار التصديق بالبعض، والمنع بالتصديق بالبعض الآخر. ويحتمل ان يكون المراد ان ذلك على ما يعتقدونه، لأنكم اذا اعتقدتم جميع ذلك ثم عملتم ببعضه دون بعض، فكأنكم آمنتم ببعضه دون بعض.