التفاسير

< >
عرض

وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً
٧١
وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً
٧٢
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
٧٣
وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
٧٤
أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً
٧٥
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
٧٦
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
٧٧
-الفرقان

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي وخلف وابو بكر إلا حفصاً "وذريتنا" على التوحيد، الباقون على الجمع. وقرأ اهل الكوفة إلا حفصاً "ويلقون" بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف.
من وحد "الذرية" فلانه فى معنى الجمع لقوله
{ { ذرية من حملنا مع نوح } ومن جمع فكما تجمع الاسماء الدالة على الجمع، نحو (قوم، واقوام) وقد يعبر ذلك عن الواحد، كقوله { { هب لي من لدنك ذرية طيبة } ويعبر به عن الجمع كقوله { { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم } ومن جمع فللازدواج.
ومن شدد "يلقون" فعلى أن المعنى يلقون التحية والسلام مرة بعد مرة لان التشديد للتكثير، وشاهده قوله
{ { ولقاهم نضرة وسروراً } }. ومن خفف أراد يلقون هم تحية، كما قال { { فسوف يلقون غياً } وقال بعضهم: لو كان بالتشديد لقال (ويتلقون) لأنهم يقولون تلقيته بالتحية، و (لقى) فعل متعد الى مفعول واحد فاذا ضعفت العين تعدى الى مفعولين، وقوله { تحية } المفعول الثاني.
يقول الله تعالى { ومن تاب } من معاصيه وأقلع عنها، وندم عليها وأضاف الى ذلك الاعمال الصالحات { فإنه يتوب إلى الله متاباً } أي يرجع اليه مرجعاً عظيماً جميلا، وفرق الرماني بين التوبة الى الله، والتوبة من القبيح لقبحه، بان التوبة الى الله تقتضي طلب الثواب، وليس كذلك التوبة من القبيح لقبحه.
ثم عاد تعالى الى وصف المؤمنين فقال { والذين لا يشهدون الزور } أي لا يحضرونه، ولا يكون بحيث يذكرونه بشيء من حواسهم الخمس: البصر، والسمع، والانف، والفم، والبشرة. ومن لا يشهد الزور، فهو الذي لا يشهد به ولا يحضره لأنه لو شهده لكان قد حضره، فهو أعم في الفائدة من أن لا يشهد به. و (الزور) تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. وقال مجاهد: الزور - ها هنا - الكذب. وقال الضحاك: هو الشرك. وقال ابن سييرين: هو أعياد أهل الذمة كالشعانين وغيرها. وقيل: هو الغناء، ذكره مجاهد. واهل البيت (ع).
وقوله { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } معناه: مروا من جملة الكرماء الذين لا يرضون باللغو، لانهم يجلون عن الاختلاط بأهله، والدخول فيه، فهذه صفة الكرام، وقيل: مرورهم كراماً كمرورهم بمن يسبهم فيصفحون عنه، وكمرورهم بمن يستعين بهم على حق فيعينونه. وقيل: هم الذين إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه. ذكره محمد بن علي (ع) ومجاهد. واللغو الفعل الذي لا فائدة فيه. وليس معناه أنه قبيح، لان فعل الساهي لغو، وهو ليس بحسن ولا قبيح - عند قوم - ولهذا يقال: الكلمة التي لا تفيد لغو.
وقوله { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً } معناه انهم إذا ذكروا بأدلة الله تعالى التي نصبها لهم نظروا فيها، وفكروا فى مقتضاها، ولم يكونوا كالمشركين فى ترك التدبر لها حتى كانهم صم وعميان عنها، ذكره الحسن، وقيل معناه يخرون سجداً وبكياً سامعين لله مطيعين. قال الشاعر:

بايدي رجال لم يشيموا سيوفهم ولم تكثروا القتلى بها حين سلت

أي بايدي رجال شاموا سيوفهم، وقد كثرت القتلى، ومعنى شاموا أغمدوا ذكره الزجاج.
ثم وصف المؤمنين بأنهم يدعون { يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } ومعناه بأن نراهم مطيعين لله، في قول الحسن. و { قرة أعين } يكون من القر، وهو بردها عند السرور، ويكون من استقرارها عنده.
وقوله { واجعلنا للمتقين إماماً } أي يسألون الله تعالى أن يجعلهم ممن يقتدى بأفعالهم الطاعات. وفي قراءة اهل البيت (ع) و { اجعل لنا من المتقين إماماً } وإنما وحد { إماماً } لانه مصدر، من قولهم: أم فلان فلاناً إماماً، كقولهم: قام قياماً وصام صياماً. ومن جمعه فقال: (أئمة) فلانه قد كثر في معنى الصفة. وقيل: إنه يجوز أن يكون على الجواب، كقول القائل: من أميركم؟ فيقول: هؤلاء أميرنا قال الشاعر:

يا عاذلاتي لا تردن ملامتي إن العواذل ليس لي بأمير

ثم اخبر تعالى عمن جمع هذه الاوصاف من المؤمنين بأن قال { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } على طاعاتهم التي ذكرها. و (الغرفة) فى الجنة المنازل العالية ثواباً على ما صبروا في جنب الله، وعلى مشاق الدنيا وصعوبة التكليف، وغير ذلك وانهم { يلقون فيها تحية وسلاماً } من الملائكة، بشارة لهم بعظيم الثواب.
وقوله { خالدين فيها } نصب على الحال أي هم فى الجنة مؤبدين، لا يخرجون منها ولا يفنون. وأخبر أن الجنة مستقرهم، وانها { حسنت مستقراً } من مواضع القرار، وموضع الاقامة ونصب على التمييز.
ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) { قل } يا محمد لهؤلاء { ما يعبؤ بكم ربي } ومعناه ما يصنع بكم ربي - فى قول مجاهد وابن زيد - واصله تهيئة الشيء، ومنه عبأت الطيب أعبؤه عباء، إذا هيأته، قال الشاعر:

كأن بنحره وبمنكبيه عبيراً بات يعبؤه عروس

أي تهيئه، وعبأت الجيش - بالتشديد، والتخفيف - إذا هيأته. والعبء الثقل. وما أعبأ به أي لا أهيّء به امراً. وقال قوم: ما لا يعبأ به، فوجوده وعدمه سواء.
وقوله { لولا دعاؤكم } قال مجاهد: معناه لولا دعاؤه إياكم الى طاعته، لم يكن في فعلكم ما تطالبون به، وهو مصدر أضيف الى المفعول، كقولهم: اعجبني بناء هذه الدار، وخياطة هذا الثوب. وقال الزجاج: معناه لولا توحيدكم وايمانكم، وقال البلخي: معناه لولا كفركم وشرككم ما يعبأ بعذابكم، وحذف العذاب وأقام المضاف اليه مقامه.
ثم قال { فقد كذبتم } يا معاشر الكفار بآيات الله، وجحدتم رسوله { فسوف يكون لزاماً } عليكم، ويكون تأويله، فسوف يكون تكذيبكم (لزاماً) فلا تعطون الثواب عليه، وتكون العقوبة لزاماً تلزمكم على ذلك. وقال مجاهد: معناه القتل يوم بدر ويكون الخطاب متوجهاً الى الذين قتلوا يوم بدر. وقيل (اللزام) عذاب الآخرة، وقال ابو ذؤيب - فى اللزام:

ففاجأه بعادية لزاماً كما يتفجر الحوض اللقيف

لزام: كثيرة يلزم بعضها بعضاً، ولقيف متساقط متهدم، وقال صخر الغي - فى اللزام:

فاما ينجوا من حتف ارض فقد لقيا حتوفهما لزاماً

أي انه واقع لا محالة. وقال الضحاك: هو لزوم الحجة لهم فى الآخرة. وقال ابو عبيدة: معناه فيصلا.
وقوله { أولئك يجزون الغرفة } قال الزجاج: الأحسن أن يكون خبراً لـ
{ { وعباد الرحمن } فيكون قوله { الذين يمشون على الأرض هوناً } وما بعده صفة له ويجوز أن يكون { الذين يمشون على الأرض هوناً } خبر، وما بعده عطف عليه