حكى الله تعالى عن أم موسى أنها قالت لأخت موسى: قصيه أي اتبعي اثره، يقال قصه يقصه قصاً إذ اتبع اثره، ومنه القصص، لانه حديث يتبع بعضه بعضاً يتبع الثاني للاول، والاقتصاص اتباع الجاني في الأخذ بمثل جنايته في النفس.
{ فبصرت به عن جنب } معنى { فبصرت به } رأته، وهو لا يتعدى إلا بحرف الجر. والرؤية تتعدى بنفسها، وقال مجاهد: معناه عن بعد، ومثله أبصرته عن جنابة قال الاعشى:
أتيت حريثاً زائراً عن جنابة فكان حريث عن عطائي جامدا
أي عن بعد، وقيل: معنى { عن جنب } عن مكان جنب، وهو الجانب لأن الجنب صفة وقعت موقع الموصوف لظهور معناه، وكان ذلك احسن واوجز { وهم لا يشعرون } قال قتادة: معناه وآل فرعون لا يشعرون انها اخته.
وقوله { وحرمنا عليه المراضع } وهي جمع مرضعة ومعناه منعناه منهن وبغضناهن اليه، فكان ذلك كالمنع والنهي، لا أن هناك نهياً عن الفعل، قال الشاعر:
جاءت لتصرعني فقلت لها اقصري اني امرء صرعي عليك حرام
اي ممتنع فاني فارس امنعك من ذلك، ومثله قولهم: فلان حرم على نفسه كذا بالامتناع منه، كالامتناع بالنهي. وقوله { من قبل } أي من قبل ردّه على أمه { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } معناه يضمنونه برضاعه والقيام عليه، وينصحونه في ذلك، فقيل لأخته من أين قلت: انهم ناصحون له أعرفت أهله، فقالت: إنما عنيت ناصحون للملك. والنصح اخلاص العمل من شائب الفساد، وهو نقيض الغش: نصح ينصح نصحاً، فهو ناصح في عمله، وناصح في نفسه في توبته إذا اخلصها. وقوله { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن } قيل: ان فرعون سأل أمه كيف يرتضع منك، ولم يرتضع من غيرك؟! قالت: لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا اكاد أؤتى بصبي إلا ارتضع مني. وبين تعالى انه إنما فعل ذلك { كي تقر عينها } يعني عين أمه، فرده عليها { ولتعلم أن وعد الله حق } لا بد من كونه. ثم قال { ولكن أكثرهم } اى الخلق { لا يعلمون } حقيقة ما يراد بهم. وقيل: من قوم فرعون ما علمته أم موسى، ومن لطيف تدبير الله تسخير فرعون لعدوه حتى تولى تربيته.
وقوله { ولما بلغ أشده واستوى } قال قتادة: اشده ثلاث وثلاثون سنة، واستوائه اربعون سنة. وقيل استواء قوته { آتيناه } يعني أعطيناه { حكماً وعلماً } قال السدى: يعني النبوة. وقال عكرمة: يعني العقل.
وقال مجاهد: الفرقان. والحكم الخبر بما تدعو اليه الحكمة. والمعنى علمناه من الحكمة ما تقتضي المصلحة، واوحينا اليه بذلك. ثم قال: ومثل ما فعلنا به نجزي أيضاً من فعل الاحسان. وفعل الطاعات والافعال الحسنة.
ثم اخبر تعالى ان موسى { دخل المدينة } يعني مصر، وقيل: غيرها { على حين غفلة من أهلها } قيل: إنه كان وقت القائلة. وقيل: لأنهم غفلوا عن ذكره لبعد عهدهم به. وقيل: انه كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم. وقوله { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه } قال مجاهد: يعني من شيعته إنه كان اسرائيلياً، والآخر إنه كان قبطياً. وقال ابن اسحاق: كان احدهما مسلماً، والآخر كافراً { فاستغاثه الذى من شيعته على الذي من عدوه } أى استنصره لينصره { فوكزه موسى } اى دفع في صدره، وجميع كفه (ولكزه) مثل وكزه ولهزه { فقضى عليه } اى مات، فقال عند ذلك موسى { هذا من عمل الشيطان } اى من اغوائه حتى زدت من الايقاع به، وإن لم اقصد قتله. وقيل: ان الكناية عن المقتول، فكأنه قال: ان المقتول من عمل الشيطان اي عمله عمل الشيطان. ثم وصف الشيطان بأنه { عدّو } للبشر ظاهر العداوة. وقوله { هذا من شيعته وهذا من عدوه } إشارة إلى الرجلين اللذين احدهما من شيعة موسى، والآخر من عدوه إنما هو على وجه الحكاية للحاضر إذا نظر اليهما الناظر قال هذا من شيعته وهذا من عدوه.